في الذكرى (35) لرحيل النقيب المهندس احمد خلف الرقاد
رحل
بصمت العقلاء ، وكبرياء الرجال ، ومعنويات القادة
من قلم اللواء الركن (م)
الدكتور محمد خلف الرقاد
في بداية هذا
الشهر تموز 2022م يكون قد مضى خمسة وثلاثون عاما بالكمال والتمام على رحيل حبيب
القلب ورفيق الدرب وصديق العمر ، ونصفي الأيمن المرحوم أخي النقيب المهندس احمد
خلف الرقاد ، ففي يوم 8 تموز 2022م وهو
ذكرى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، زرت قبره - وقبر الحبيب يُزار- وقرأت الفاتحة
على روحة الطاهرة ، وأرسلت رسائل على المجموعات التي تضم أخواني وآل بيتي وأخواتي
، وإلى ابنته الوحيدة تماسي ( أم أمير) أترحم فيها عليه - حيث كان عمرها لا يزيد
عن السنتين عند وفاته - وأذكِّرهم بقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة، وأحثهم على
التصدق عن روحه التي فاضت إلى بارئها وهو في ميعة الصبا وريعان الشباب ، ولم يكن
يملك من الدنيا سوى بقايا راتب قد تهالك من كثرة الكمبيالات والديون التي تراكمت
عليه -رحمه الله - جراء بنائه لبيته المتواضع الذي لم يهنأ بالعيش فيه سوى أقل من
سنتين من العمر الفاني، ومع هذا كان رحمه الله مفعماً بالحماس ، حيث كان قد تخرج من كلية
تشيلسي في بريطانيا ، وانخرط في سلك القوات المسلحة برتبة ملازم هندسة ميكانيك ،
وخدم في وحدات سلاح الصيانة الملكي الميدانية ، وشغل وظيفة قائد مشغل في الفرقة
الآلية /12الملكية التي سميت فيما بعد بالمنطقة العسكرية الشمالية وهو برتبة ملازم
وملازم أول ، ومن ثم التحق في مدرسة سلاح الصيانة الملكي كآمر لجناح الميكانيك وهو
برتبة نقيب ، وقبيل وفاته رحمه الله ، كان قد أنهى للتو دراسة فصل دراسي واحد ،
وربما فصلين أو أكثر- لا أذكر بالضبط - من
قسم هندسة الميكانيك في الجامعة الأردنية ( وهو برنامج اختطته القوات المسلحة
لتأهيل خريجي هندسة الميكانيك من كلية تشيلسي لجميع ضباطها المهندسين في سلاح
الصيانة الذين تخرجوا من تلك الكلية في بريطانيا ، لكي يستكملوا دراساتهم العليا
في تخصص هندسة الميكانيك في الجامعات الأمريكية، وكان أحمد واحداً منهم ، لكنه كان
متميزاً في التطبيق العملي الميداني) ، كان متفائلاً جداً وبنفسية ومعنويات عالية،
وهو يتهيأ استعداداً للسفر في بعثة دراسية لاستكمال دراساته العليا في الهندسة
الميكانيكية في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد قام بتسليم كل ما في عهدته كآمر
جناح في مدرسة سلاح الصيانة الملكي ، ولم بيق أمامه سوى عدة أيام للسفر.
لقد مرت ذكراه
عليَّ وعلى أخواني وأخواتي ونحن المؤمنون بالله الراضون بقدره ، ولم نقل إلا
مايرضي وجه الله وما زلنا نحتسبه عند الله ، حتى والدتي ووالدي اللذان تفطرا حزناً
وأسىً على رحيله ، وكانا من المؤمنين بقضاء الله ، سلّما أمرهما لله واحتسباه عنده
.
ولعل
من أهم ما استثار مشاعري أثناء النبش في أوراقي في مكتبتي يوم أمس 18 تموز 2022م هو تلك الكلمات التي
كتبتها في 18 آب 1987م لمناسبة مرور أربعين يوماً على انتقال أخي أحمد إلى الرفيق
الأعلى، حيث وجدتها على أصلها (مسوّدة) وبـ
" خربشاتها وتشطيباتها والتصليحات التي أجريت عليها" ، ففاض الدمع من
عيني عنوة وأنا أجلس في مكتبتي القابعة على الجزء الشرقي من منزلي وتفضي إلى الأفق
المفتوح البعيد أمامي ، وتذكرت بيت شعر لأبي فراس الحمداني وهو رهين محبسه يقول
فيه : إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى .... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر...
مع فارق المقارنة بين الوضعين الحزينين ، فهو رهين حبس حريته ، وأنا رهين حبس حزني
، حيث لم يغب خياله عن ذهني ، وإن غاب لا تفتأ ذاكرتي تعيد لي شريط الذكريات ، فحينما
كان طالباً يدرس الهندسة كتلميذ عسكري في لندن، ، فيما كنت أنا أدرس في بيروت
بمستوى السنة الجامعية الثانية وعلى نفقة والدي الخاصة ، وكنت اكبره بثلاث سنوات ،
وكان والدنا جندياً في القوات المسلحة لا يكاد راتبه يفي باحتياجات البيت ، حيث تطوف
بي الذكريات إلى ذلك اليوم الذي حمل فيه ساعي البريد رسالة من الحبيب احمد وهو تلميذ
غض الإهاب ، صغير السن، لكنه كان كبيراً في عقله، وصاحب فكر نيِّر ، حيث اجتزأ سبع
جنيهات من راتبه الضئيل وأرسلها لي داخل رسالة بخط يده في البريد العادي كي استعين
بها على شراء بعض الكتب التي تنقصني ، يالها من أخوة لا اعتقد أن يكون لها مثيل
إلا عند من رحم ربي ، ذلك لأن والدي ووالدتي قد ربيانا على الأخوة الصادقة والمحبة
الوافية والمودة الدافئة ، وفي جعبة الذكريات ما يكفي من قصص المعاناة الممزوجة
بروح الأخوة والتضحية، ففي إحدى المرات حينما حل علينا ضيفاً في إجازة صيفية في
قريتنا الوادعة، كنت قد فصّلت (جاكيتاً من الكاروهات) حيث كانت هي "الموضة"
الدارجة، وحينما ارتداه أعجبه، فباركت له فيه رأساً، علماً بأني كنت أدفع ثمنه للخياط
بالتقسيط ، وسافر معه إلى لندن ... ما أجمل الذكريات لولا أنها تقسو حين تمس شغاف
القلب ، وتثير الشجن والحزن ، لقد أخذني الشوق والحنبن للراحل الحبيب ، فأنقل
لأحبائي وأصدقائي مشاعري في يوم (أربعينته) أي مرور اربعين يوماً على وفاته عام
1978م ، كتبتها وأنا اتجرع مرارة الحزن
والأسى في تلك الفترة ، فأقول فيها :
" أيها
الفارس الراحل بصمت العقلاء ، وكبرياء الرجال الرجال ، لقد رحلت دون أن تقول
وداعاً لكل الذين (أغلوك) وأحبوك وقدروك وحتى الذين عرفوك من قرب ومن بُعد ، وحتى
الذين لم يكنُّوا لك الود قد حزنوا جميعاً عليك .
أيها
الفارس الذي تربع على عرش القلب .... إنها إرادة الله - ولا
اعتراض على قدره جلّ وعلا – لقد ترجّلت – وانت الفارس العنيد- عن صهوة الدنيا
بلمحح البصر ، وتركتنا دون كلمة وداع ..... ولكن لنا في رسول الله أسوة حسنة
" إن العين لتدمع " وإن القلب ليصبر ، وإنا على فراقك يا "أحمد " لمحزونون .
لقد
كنت الأخ السند، والشجاع الأسد ، والفكر الثاقب ، والخلق الحميد ، تتجلى فيك سمات
القيادة رغم صغر السن ، لكنها إرادة الله ومشيئته أن تخطفك يد المنون ، وأنت في
ميعة الصبا وريعان الشباب ، وقمة الطموح وموفور العطاء، ماذا نقول : فلا حول ولا
قوة إلا بالله العلي القدير ، وليس لنا إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الباري عز وجل
أن يتغمدك بواسع رحمته ، وأن يزيد في حسناتك ، ويتجاوز عن سيئاتك ، لقد كنت طموحاً
تستعد للسفر ، لكن إرادة الله شاءت أن تسافر سفراً أبدياً لا رجعة للدنيا بعده ،
فقلوبنا تفطرت أسىً ، ، وأغرورقت عيوننا بدموع الفراق المر، وجفت مآقي أخواتك من
البكاء والنحيب، فلا رادّ لقدر الله ...........إيـــــــه أبا " تماسي
" يرحمك الله ... لقد لاقيت وجه ربك وأنت ترتدي زيك العسكري ، زي الشرف
والرجولة والبطولة..... أيــــــــه أبا " تماسي " لقد طويت عمرك وأنت
تعكف بجدٍ على أوراقك ، تسعى لتحقيق الطموح ، وتشحذ العزم والإرادة على تطوير نفسك
وعملك... فلطالما حدّثتنا عن الأخوة والزملاء والتلاميذ المتدربين المبدعين،
ومناهج التدريس في مدرسة سلاح الصيانة الملكي ، حيث كرمتك القوات المسلحة بإطلاق
اسمك على إحدى قاعات التدريس التي كنت تلقي فيها محاضراتك كما أخبرنا اللواء الركن
المهندس المرحوم مصلح اليماني مدير سلاح الصيانة الملكي آنئذ ..... لقد أفنيت زهرة
الشباب في خدمة الوطن وقواتك المسلحة ....أبدعت ولم تنتظر شكراً من أحد ....أعطيت
ولم تأخذ شيئاً من أحد ...فطوبى لمن استشهدوا على مثل هذا الطريق .
بكيناك
يا أحمد ..... رجلاً صلباً وجندياً محترفاً ومهندساً مبدعاً وإنساناً باراً
بوالديه وإخوته وأهله وأعمامه وأقاربه ، وفياً لأصدقائه ومعارفه ، سخياً جواداً
كريماً نديا ..... لقد بكاك معنا محبوك وأصدقاؤك وزملاؤك ومعارفك ..... حتى الأزهار
والورود التي كنت قد زرعتها على مدخل بيتك جفّت وماتت حزناً عليك ، فلم تعد مزهرة
، لقد تجمدت المشاعر أسىً وتجلداً على روحك الطاهرة ، فقد كنت مصباح البيت المنير،
والقمر الذي بدد عتمة ليل والدينا حيناً من الزمن ......ولكنك غبت بلا استئذان
وبدون مقدمات .... رحمك الله .... وإلى جنات الخلد ياشقيق النفس وتوأم الروح ...ولا
حول ولا قوة إلا بالله ....وإنا لله وإنا اليه راجعون ".
أخوك : ابو مشعل تاريخ 18 آب 1978
وكنت في العام الماضي 2021م، وفي
ذكرى وفاته (34) قد كتبت قصيدة تحت عنوان:(نفحات قلب لم تكتمل ) ، والحقيقة
لم استطع إكمالها حتى الآن أقول فيها :
كلّما حلّ طيفك ضيفاً في خاطري ........... هيــّـــجَ في حنـــايا القلبِ خفـــقَ الشـــجنْ
شهد
الله أنك لم تغب عن حاضري ............. تعيش
ذكــــــــراك مـــعي طــــــولَ الزمـــــنْ
كلما حلّت الذكرى هاجَ القلبُ مني ...........وذابت
الروحُ أسىً وطار من عيني الوسنْ
يا لذكراك التي هيّجَتْ فيَّ جرحي ........... أسىً بين جـــمرِ الغضى والــــــذكرِ الحسنْ
يا لقلبي الذبيح مهلاً لا تمت فإني ............فقدتُ نصفي في زمانٍ توالت فيه المحنْ
رحم
الله أحمداً وأسكنه فسيح جناته ، ورحم جميع أموات المسلمين، وهوّن الله على كل من أصيب بفقد عزيز، وليسامحني من
أثرتُ شجنَه وفتّحت عليه جروحَه .
اللواء الركن (م)
الدكتور
محمد خلف الرقاد