نيروز الإخبارية : لا شك أن الواقع الإنساني الخارجي يشكل جزءًا لا غنى عنه في التشكيل الموضوعي للعمل الأدبي، وذلك بعد مروره على ذات مبدعه الذي يستعين على تشكيله بأدوات فنية تمنح النص قدرًا من الإدهاش يتناسب ومقدرة الكاتب على صوغ الواقع بطريقة تمنحه بريقًا وتأثيرًا.
ولسنا ننكر ما لملامسة الواقع في النص من أهمية كبيرة في وصوله إلى نفوس المتلقين وحيازة القابلية لديهم؛ فمخاطبة هؤلاء هو الغاية، والتأثير فيهم هو الهدف، والتغيير في واقعهم هو الطموح.
لكن هل يعني هذا أن يتحول الكاتب إلى مصور (فوتوغرافي) ينقل الواقع كما هو؟ ولا أعني هنا الناحية الموضوعية، بل أقصد ما يفرض على الكاتب أن يعيد تشكيل الواقع تشكيلًا ملائمًا، وأن يسبغ على نصه (الناقل للواقع) قيمة فنية تحيله إلى عمل أدبي جميل.
ومن الأدوات الفنية التي يلجأ إليها الأديب استخدام الرمز بوصفه وسيلة فنية تقوم على التكثيف، وربما التخفي بهدف إيصال الفكرة دون أن تثير زوبعة من الرفض والاستهجان.
رواية (صراع الوجود) للكاتبة الروائية (غادة ياسين الأحمد) عمل روائي مختلف بكل ما تعني كلمة الاختلاف من معنى، فالقارئ المتتبع لحركة الرواية العربية في العقود الأخيرة يجد فيها كثيرًا من نقاط التقاطع والالتقاء، حتى بات القارئ يتنبأ بما ستؤول إليه الأحداث قبل وقوعها، وذلك بعد خبرة يكتسبها بفضل مطالعته لعدد من الروايات التي يتأثر بعضها ببعض حتى تضيع فيها أحيانًا ملامح خصوصية الكاتب.
تقف الروائية (غادة ياسين الأحمد) على ضفة أخرى منفردة، لتطرح فكرة جريئة تتجاوز فيها حدود المناطقية الجغرافية لتشمل الكون بأسره، وتبتعد عن انتمائها لدين أو طائفة أو عرق أو فئة لتعلن انتماءها للعالم كله، فهي وإن كانت تقف على أرضية عقائدية ثابتة فإنها تطرح فكرًا عامًا وتعالج قضية بني الإنسان على هذا الكوكب.
تحكي الرواية عن سيطرة قوى عظمى على هذا الكوكب، عبر التحكم بمقدراته الاقتصادية والإمساك بمفاصل الحياة، ولأن النفط هو رأس المال الأقوى حتى اللحظة فإننا نجد شخصية (نفطي) التي تمثل الكيان الصهيوني الذي يمد أذرعه الأخطبوطية في كل اتجاه ليمسك بخيوط اللعبة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، هي القوى العظمى الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الرواية.
ولأن هذا الكيان في حقيقته أضعف من أن تكون له هذه الهيمنة على العالم دون أن يتلقى الدعم والمساندة التي تضمن بقاءه واستمراره، لذا كان لا بد من أن توجد شخصية (الشمس) بوصفها الداعم بل وسبب الوجود.
ومعلوم أن الشمس هي الطاقة الوجودية التي تقوم بها الحياة على هذه الأرض، وما كان للنفط أن يكون ذا شأن وأهمية لولا أن الشمس تقيم مظاهر الحياة وتبقيها، والشمس في الرواية هي الداعمة لـ(نفطي)، وهي تمثل القوى الداعمة للكيان المزعوم وتمده بأسباب بقائه واستمراره.
وتظهر شخصية (قمري) وهي شخصية تحمل في باطنها بذرة الخير غير أنها تقف أمام القوى العظمى وقوف المجامل المحابي، خوفًا وطمعًا، فهي تمثل شريحة كبيرة ممن تضمر في داخلها قناعتها بوهم وجود الكيان، غير أنها تحابيه وتتزلف إليه لتنال الرضا، قناعة منها أن رضا نفطي هو الضامن لبقائها هي، وأنها دونه ستكون أضعف من بيت العنكبوت.
ولأن للحق صرخته في وجه الباطل، كان لا بد من أن نجد شخصية تقود ركاب الحق، وتسعى في إعادة هذا الكوكب إلى فطرته التي خلق عليها، تعيد إليه ملامح النقاء التي عملت القوى العظمى على طمسها وإخفائها تحت ضباب المصلحة وهوس السيطرة، فكانت شخصية (أرضي) بمساندة الغيمات والفحمات - وهؤلاء جميعهم من ضحايا نفطي الذي لوث وجودهم وألغى كيانهم – هي صرخة الحق في وجه الباطل، هي الإيمان بالمبدأ والثقة بأن من يمتلك قضية عادلة قادر على قهر أعتى المتجبرين.
وأمام هذا الصراع الوجودي الكبير تَعْمَد الكاتبة (غادة الأحمد) إلى بث روح التفاؤل في نفس القارئ، لتخبره بأن الحق منتصر لا محالة، فتلك سنة الله في الكون، وعلى الرغم من شدة الظلام في الأفق وغياب بارقة أمل ولو وحيدة في هذا الواقع الصعب، إلا أن حكمة الله تتجلى في قهر الباطل بعد امتداد هيمنة، وسحق الظالم بعد طول تجبر.
تعمد الكاتبة في روايتها إلى عالم الخيال لتقيم فيه عالمها الروائي الخاص، مستعينة بما تمتلكه من ثقافة مكنتها من التعامل مع عناصر الطبيعة وما يتميز به كل منها من خصائص، لتخلق انسجامًا بين العنصر في واقعه العلمي وقيمته الرمزية المستخدمة في العمل الأدبي، وهذا أمر يحسب للكاتبة بقوة، إذ تغيب عن كثير من الأعمال الروائية تلك الصبغة العلمية التي يحتاجها الروائي أحيانًا فيتهرب من التفاصيل بالاكتفاء بالعموميات وما يتداوله العامة.
وإذا كانت رواية (صراع الوجود) رواية مختلفة في الفكرة واستحضار الرموز فإن ثمة ما هو مختلف أيضًا وبشكل يكاد يشكل انفرادًا في عالم الرواية، وأعني به اعتماد الكاتبة اعتمادًا شبه كليّ على (الحوار) والابتعاد عن السرد كما عهدنا في فنّ الرواية.
في الحقيقة لا أدري ما السبب الذي دفع الكاتبة إلى اعتماد الحوار لغةً لروايتها؟!.
لكن ذلك دون شك جعلها تجمع بين فنين أدبيين أنٍ معًا هما الرواية والمسرحية، وربما هذا ما أرادته الكاتبة من وراء اعتماد لغة الحوار في روايتها، إذ جعلتها عملًا قابلًا للعرض المسرحي وبجدارة.
وللحوار في الرواية طبع يجمع بين البساطة والعمق، فلا يكفي وأنت تقرأ الرواية أن تمر بالحوار مرور المتتبع للأحداث على اعتبار أن الحوار حامله الأوحد، وإنما عليك أن تتفكر في ما يرد على ألسنة أبطال الرواية، فوراء كل كلمة معنى، ووراء كل عبارة دلالة، فلا تجد في الحوار ما يزيد على الحاجة أو يميل إلى الاستطراد غير المبرر فكريًا وفنيًا.
وتحفل الرواية بعنصر الإدهاش والمفاجأة، فكم تجد عبارة تصطدم بالمتوقع لديك، ثم يأتي في السياق ما يفسرها ويزيح اللثام عن وجهها، فتبدو لبنة أساسية في البناء الروائي الذي أنت في حضرته.
باختصار.. إن قراءتك رواية (صراع الوجود) للكاتبة الروائية (غادة ياسين الأحمد).. يعني دخولك عالم الدهشة حتى آخر حرف فيها.