"ما بين الأسطورة الهولويدية وتاريخ البرازيل في القرن ال 16"
اسم زومبي له وقع مرعب في النفوس وتحول إلى رهابٍ يُصيب ذوي القلوب الضعيفة والهمم المتردية.
ويُعْرَفْ زومبي بالميت الحي الذي تتحرك جثته بفعل وسائل سحرية تمارسها الساحرات لتداهم الأحياء من البشر في الطرقات وبالتالي التسبب بقتلهم؛ ومن ثم تخرج جثامينهم من الأجداث على شكل زومبي جديد، وهذا نوع من شرور السحر الذي كثرت مصائبه على الناس وفق ما كان شائعاً في اسبانيا بعد سقوط الاندلس قبل 526 عاماً، وقد تعرضت الساحرات بفعل محاكم التفتيش للحرق، وغالبا ما يطبق هذا المصطلح غير الحقيقي لوصف شخص منوم مجرد من الوعي الذاتي.
وتلتقي هذه الصورة النمطية للزومبي مع معتقدات بعض المجتمعات المحلية في جنوب أفريقيا حيث يعطى للشخص خلطة عشبية تؤدي إلى فقدانه جميع أعماله الحيوية بحيث يعتبر شبه ميت لبعض الوقت أو اكثر؛ فيما يشتبه ذووه بأنه ميت فيسترعي ذلك دفنه في زنزانته ومن ثم يخرج من قبره شبه حي بعد حين؛ لكنه يفتقد للكثير من الادراكات الذهنية، ويتهم السحرة بإطلاق تعويذات أدت إلى ذلك.
وقد ظهر الزومبي لأول مرة في فيلم "ليلة الحي الميت" الذي أُنتج عام 1968. وتلته المئات من أفلام الرعب والخيال العلمي، التي تتخذ من الزومبي ثيمةً لها. بالإضافة لظهورها في عدد من الألعاب كان آخرها في لعبة الببجي التي يمارسها الشباب بشغف وتبرمجهم على تبني أفكار سوداوية خارج المالوف فتزعزع ثقتهم بانفسهم.
كما أن مصطلح الزومبي موجود في الثقافة الهاييتية وديانة الفودو. حيث تشير إلى موتى أُعيد إحياءهم، من خلال عملية استحضار الأرواح.
هكذا وظفته هوليود في استثمار الخوف وذلك لهدفين:
الأول:- جناية الأرباح المادية الهائلة وقد نجحوا في ذلك.
الثاني:- تشويه صورة أحد الأبطال التاريخيين في البرازيل الذي قاد ثورة للعبيد وأقام لهم دولة متمددة.
ثالثاً:- وربما عن غير قصد جاء مفهوم الزومبي ليعبر عن تحرر العبيد من مقبرة الاستعباد لينتقموا من ساداتهم .. لكن هذه الصورة ظلت مهمشة فالتهمت الأسطورة الواقع التاريخي.
فمن هو هذا الزومبي الذي سنتحدث عنه بإسهاب من باب الإنصاف؟.
وحتى نقف على دوافع زومبي التحررية ومكوناته النفسية وديانته، فلا بد من التنقيب في تلك الحقبة من تاريخ البرازيل المظلم الذي شهد ازدهاراً لتجارة العبيد الرائجة آنذاك وذلك في (القرن ال16) للوقوف على مكونات زمبي الشخصية والتعرف على هويته.
ولنبدأ بمظهره الخارجي وفق ما بدا منه في تماثيله، من حيث نظراته الثاقبة التي تجمع بين الصرامة وطيبة القلب، ووجهه المستدير وبنيته المتينة، فهو فارع الطول ومفتول العضلات إذْ يتمتع بمهابة تمكن النحات من إبرازها كأنها ناطقة، فبدا شامخاً كالصقر صلباً كالبرونز.
بدأت الحكاية من الأندلس التي سقطت على يد القشتاليين عام 1492.. وظهور محاكم التفتيش التي خيرت المسلمين ما بين الرحيل او القتل أو التنصير (ديانة القشتاليين).. وبما ان الأندلس كانت منبعاً للعلم والخبرات التقنية، ولشدة الظلم الذي أصاب الموريسكيين ( وهم المسلمون الذين رضخوا لشروط القشتاليين) فقد هاجر عدد كبير منهم إلى القارة الأمريكية الجنوبية كعاملين في السفن الاستكشافية الإسبانية والبرتغالية؛ لكن لعنة محاكم التفتيش طاردتهم إلى هناك، ومارست عليهم جبروتها، فاستعبدتهم إلى جانب أولئك الذين تم اصطيادهم في أدغال إأفريقيا من قبل تجار العبيد البيض ونقلهم للعمل كعبيد في البرازيل، واستفادت المستعمرات من خبراتهم النوعية.. وحينما تمظهروا جوهرياً بدينهم الإسلامي، واجههم الإسبانيون والبرتغاليون بمحاكم التفتيش الجائرة، وهذه المرة خيروهم ما بين الإبادة أو الانصياع لأوامر "السادة" بتنصيرهم وفق ديانة القشتاليين.
والجدير بالذكر أن الوثائق التاريخية المحفوظة في المتاحف البرازيلية، تؤكد أن أكثرية المنحدرين من الأفارقة الذين جيء بهم كعبيد إلى "البرازيل"، هم من جذور إسلامية، وأنهم كانوا يتلون القرآن باللغة العربية.
وقد وصلت أفواج الرقيق إلى "البرازيل" عام 1538، ولم تمضِ 40 سنة حتى نقل إليها 14 ألف مسلم مستضعف، والسكان لا يزيدون حينذاك على 57 ألفًا، وفي السنوات التالية أخذ البرتغاليون يزيدون من أعدادهم؛ إذ جلبوا من "أنجولا" وحدها 642 ألف مسلم زنجي، وجلّ هؤلاء السود جيء بهم من غرب أفريقيا، على أن أبرز مجموعاتهم هي التي اختطفت من المناطق السودانية: مناطق "داهوتي"، و"أشانتي"، و"الهاوسا"، و"الفولان"، و"البورنو"، و"اليوربا" .. وحُمِل هؤلاء المسلمون في قعر السفن بعد أن رُبطوا بالسلاسل الحديدية، ومات منهم من مات وألقي في البحر من أصيب بوباء أو حاول المقاومة.
وقد وصفت هذه التجارة التي كانت رائجة في الأمريكيتين بداخل المستعمرات الأوروبية في رواية الجذور من خلال شخصية كونتا كينتي للمؤلف الأمريكي أليكس هيلي، والتي تم تحويلها أيضا كمسلسل تلفزيوني،
وهو أفريقي مسلم تم اصطياده في دولة غامبيا الأفريقية وكانت لغته الأصلية «ماندينغا».
ويصف هيلي عملية اصطياد كينتي وكيف نقل مع العبيد مقيداً بالسلاسل في قاع السفينة الخشبية حيث مات منهم ستون ورُمي بهم في البحر ليصبحوا طعاماً للأسماك.
فأصبحت تجارة العبيد أحد أهم عناصر الاقتصاد في أوروبا والأمريكيتين، ذلك الاقتصاد الذي اعتمد على (سواعد السود وعقول البيض).
ويؤكد المؤرخ البرازيلي الشهير "جواكين هيبيرو" في محاضرة ألقاها عام 1958م ونشرتها صحف "البرازيل"، أن العرب المسلمين زاروا "البرازيل"، واكتشفوها قبل اكتشاف البرتغاليين لها عام 1500م، وأن قدوم البرتغاليين إلى "البرازيل" كان بمساعدة البحارة المسلمين الذين كانوا أخصائيين ومتفوقين في الملاحة وصناعة السفن.
عاش العبيد بالمستعمرات الإسبانية والبرتغالية بالبرازيل في ظروف معيشية لا إنسانية وقاسية جداً، حيث منعوا من التعليم لحرمانهم من التحرر الفكري والابتكار، كما حرموا من العلاج الطبي فداهمتهم الأوبئة التي حصدت عدداً كبيراً منهم.. ولم تسعفهم في ذلك أساليب العلاج الأفريقي التقليدية التي يُعْتَبَرُ السحرُ جزءاً منها.
ولم يقف الظلم عند هذا الحد؛ بل جُرِّدَ العبيدُ من إنسانيتهم وطُمِسَتْ معالمُ هويتِهم الثقافية حتى صوتَ العقل والكرامة صودرا من رؤوسهم المُطأطئة، وأصيبوا برهاب السيد الذي مارس عليهم طغيانه، وحرمهم من أبسط حقوقهم وخاصة ممارسة شعائرهم الدينية، حيث أجبر بعضهم على التنصر أو القتل حرقاً ، فيما ظلوا يمارسون الدين الإسلامي سراً كما كان عليه حال المورسكيين في الأندلس. هذا ما تؤكده اغلب الوثائق التاريخية المحفوظة في متاحف البرازيل.
وبما أن طالظلم يولد الانفجار".. و"الحر تأنفه القيود" فقد تجلت هاتان المقولتان في ثورة العبيد بالبرازيل التي قادها باقتدار القائد الملهم، زومبي دوس بالماريس (1655 - 1695) وكان أيضا آخر ملوك كويلومبو دوس بالماريس، وهي مستوطنة من (الأفرو-برازيليين) الذين حرروا أنفسهم من العبودية في نفس المستوطنة، في ولاية ألاغواس الحالية بالبرازيل. حيث يحظى زومبي اليوم بالتبجيل في الثقافة الأفروبرازيلية كرمز قوي للمقاومة ضد استعباد الأفارقة في مستعمرة البرازيل.. إذْ اعتبروه بطلاً قومياً لبلادهم، وغدا استبساله في مقاومة البرتغاليين، مصدراً ملهما للأجيال المتلاحقة من باب القدوة الحسنة.
كما تم إطلاق إسمه على مطار مدينة (ماكاي) التابعة ل (ريو دي جانيرو) الواقعة جنوب شرق البرازيل على ساحل المحيط الأطلسي وهذا تقدير لهذه الشخصية الملهمة التي سعت هوليويد إلى تشويهه وقد خابت مساعيهم في ذلك .
ولد "زومبي دوس بالماريس" عام 1655م في ولاية باهيا الواقعة في الشمال الشرقي من البرازيل التي كانت تَتَّبِعْ آنذاك مجموعة من التنظيم الاجتماعي للمدن يدعى «بالميريس» حيث كان يستمد قوانينه نسبياً من الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ناهيك عن تبني بعض العادات والتقاليد الموروثة لأن طمس هويتهم لم يؤتِ ثماره آنذاك. مثلها كان عليه حال الممالك الإسلامية النائية في غرب أفريقيا التي تم اصطيادهم في أدغالها.
فقد قام زومبي ومن معه من شيوخ الإسلام بالتوجه إلى أفراد الشعب المضطهد والمستعبد، يعظونهم ويرشدونهم ويفقهونهم في الدين ، وينزلون معهم الاكواخ الخشبية وبيوت القش ويعلمونهم القرآن ومبادىء الشريعة الإسلامية السمحاء، مع مراعاة استيعاب الاختلاف في بوتقة الوطن الجديد الذي حاول زومبي تحقيق العدالة فيه لتعويض ما نال شعبه من اضطهاد على يد البرتغاليين والإسبانيين.
وبعد أن ازداد عددهم ، وقويت عزيمتهم ، أعلن الزعيم زومبي قيام دولة بالماريس "البرازيل الإسلامية " عام 1643 وأعلن في دستورها "أن الحرية هي أساس الحكم"، فما كان من البرتغال إزاء ذلك إلا أن أعلنت الحرب على تلك الدولة الإسلامية الناشئة التي تبنت خليطاً بين العلمانية والإسلام ، فانتصرت قوات القائد زومبي عليهم المرة تلو الأخرى، فتوسعت الدولة بشكل كٍبير، إذ احتل البطل زومبي ما يزيد عن عشرين موقعاً في ولاية "باهايا" البرازيلية .
واستمرت (بالمريس) لأكثر من خمسين عاما قدم فيها المسلمون الذين تحرروا من نير الاستعباد أروع صور الإباء والصمود، فقد أظهر السود المسلمون فنوناً من التضحيات الجليلة جعلتهم يصمدون أمام البرتغاليين.
عرض بيدرو ألميدا الحاكم البرتغالي معاهدة صلح مع دولة بالماريس الإسلامية قضت بمنح الحرية لكافة العبيد المسلمين شريطة دخول بالماريس تحت سلطة الحكم البرتغالي.
لم يوافق زومبي على المعاهدة رغم تأييد الكثيرين لها من باب الجنوح للسلم، ويرجع السبب في رفض زومبي للعرض البرتغالي إلى عدم الأمان وأزمة الثقة التي كانت لدى دولة بالماريس تجاه البرتغاليين، فقاد زومبي المعارك المتوالية ضدهم ، منذ عام 1678م ، ولم تستطع السلطات البرتغالية إيقاف مد المسلمين إلا بعد مقاومة طويلة والاستعانة برجال الحدود من مقاطعة "ساوباولو” والتي كان اسمها باوليستا.
إلى جانب ذلك قرر إمبراطور البرتغال أن يتدخل شخصياً لينهي هِذا الحلم الإسلامي الوليد قبل أن ينتشر أكثر من ذلك، فأرسلت البحرية الإمبراطورية آخر ما توصلت إليه آلة القتل البرتغالية ليحاصروا المسلمين عام 1916 م ، وأجهزوا على من طالته الأيادي من الأفرو-برازيليين.
و سقطت بالماريس تمامًا في أيدي البرتغاليين عام 1694م، وأصيب زومبي إصابةً بالغة في إحدى قدميه أثناء المعارك الأخيرة.
لم تمنع الإصابة زومبي من إكمال ثورته على المستعمر البرتغالي فبدا كالقابض على الجمر، بعد سقوط بالماريس، إلا أن البرتغاليين استطاعوا أن يعثروا على مخبأه بسبب خيانة أحد أتباعه؛ من خلال المساومة على حياتِهِ مُقابل أن يدلَّهم على مكان مخبأ زومبي، وبعد القبض عليه تمّ إعدامه على الفور في 20 نوفمبر 1695م بقطع رأسه الذي علق على رمح ليكون عبرة للآخرين.
ويمكن تفسير هذه النهاية المفجعة على نحو أن وحدة الصفوف تؤدي إلى النصر؛ ولكن إذا تفرقت المواقف وأثيرت الفتن واحتدم الصراع بين الإخوة، سيخرج من بينهم الخونة والمضللون لتسليم قادتهم للعدو كما حصل مع زومبي الذي يتعرض منذ عقود للشيطنة الإعلامية من قبل صنّاع السينما القذرة في هوليويد.
23 فبراير 2023
***
المراجع
1-
Kim Paffenroth. Gospel of the Living Dead: George Romero's Visions of Hell on Earth. Waco: Baylor University Press, 2006.
2- Marinovich، Greg (2000). The Bang-Bang Club Snapshots from a Hidden War. William Heinemann. ص. 84. ISBN 0434007331. {{استشهاد بكتاب}}: الوسيط author-name-list parameters تكرر أكثر من مرة (مساعدة)
3-موقع العاب ببجي (زومبي)
4- نسرين نعيم- زومبي.. القائد البرازيلي المسلم الذي شوهته هوليوود- موقع الجزي