في أتون الحرب الأوكرانية التي طال أمدها لا يمكن تشخيص الأحداث مهما صغرت إلا بالعدسة المحدبة التي تضخم الأشياء وتبين خطورتها على المشهد العالمي برمته دون مبالغة.. على نحو الاستخفاف بالطرف الأقوى في هذه الحرب التي اثبتت قدرة روسيا على التشبث بأوراق اللعب مقابل ما يتكبده الطرف الغربي الأوكراني من أوراق على كافة الصعد.. وكأن قادته بمن فيهم أمريكا يرون في شخصية الرئيس فلادمير بوتين "الجوكر الروسي" والعقبة الكأداء أمام الاستراتيجية الغربية الرامية إلى هزيمة روسيا وتفكيكها.
فكيف إذن يُفسَرُ الهجومُ بمسيرتين على الكرملين صباح الأربعاء الماضي، بغير أنه تجاوز ٌسافرٌ وكارثيٌّ لكل المحاذير التي اتفق عليها الناتو مع روسيا بلغة الإشارة والإيماء، في تفاهمات غير رسمية بين الطرفين، وفق قواعد اشتباك حساسة وضع الروسُ شروطَها، بعد فشل كل الضغوطات الغربية عليهم والتلويح بالخيار النووى إذا ما تعرض الاتحاد الروسي للتفكيك، بفعل قلب الموازين لصالح أوكرانيا، سواء كان ذلك بدعم أوكرانيا بالأسلحة بعيدة المدى، وإعطاء الضوء الأخضر لاستخدامها أو من خلال بعض التجاوزات غير المحسوبة، كاستهداف رأس القيادة الروسية بنيّة تحفيز الشعب الروسي للانقلاب على "الجوكر" المؤثر بوتين الذي تجتمع عليه كلُّ الرهانات.
إذن فالقيادة الروسية إزاء ذلك وُضِعَتْ على محك الاختبار إذا ما ثبت فعلياً بأن السيناريو الغربي بات يستهدف رأس القيادة الروسية، وهذا لعب بالنار ومحاولة يائسة لتغيير قواعد الاشتباك.
والسؤال الملح هو: كيف حدث ذلك الاختراق الذي نجم عنه وصول المسيّرتين إلى هدفهما -تحديداً- فوق قبة الكرملين، بوجود عَلَمِ روسيا الاتحادية مرفرفاً فوقها.. على اعتبار أن وجود العلم فوق السارية يُعَدُّ إشارةً أمنية متفق عليها، تؤكد على وجود بوتين في اجتماع تنسيقي عالي المستوى تحت القبة التي شاهد العالم تعطيل وانفجار إحدى المسيرتين فوقها، ربما باستخدام الموجات الرادارية كإحدى التفسيرات الفنية غير الرسمية.
وشاهد العالم عدداً من مقاطع الفيديو التي اظهرت طائرة مجهولة واحدة من دون طيار كانت تحلق باتجاه الكرملين، ثم انفجرت دون إصابتِها الهدف. أيضاً إظهار نشوب حريق مع تصاعد دخان في جانب آخر من مبنى الكرملين، ما يؤكد إصابة المسيّرة الثانية لهدفها.
وعليه فقد قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن بوتين كان موجودا بمقر إقامته بضواحي موسكو في "نوفا أوغاريوفا"، ولم يصب بأي أذى ولم يتغير جدول أعماله. واعتبرت الرئاسة الروسية الهجوم محاولة فاشلة، لاغتيال بوتين.
ومن الطبيعي أن يتهم الكرملين مبدئياً أوكرانيا بالوقوف وراء الحادث، كما هو دأبها على نحو انفجار جسر القرم العام الماضي مع تنامي الحديث الإعلامي حول إمكانية شن أوكرانيا هجوماً مباغتاً على أهداف مختلفة داخل روسيا باستخدام المسيّرات؛ لكن أحدًا لم يتحدث عن إمكانية وصولها إلى المقر الرئاسي.
لكن البعض يتهم أمريكا بالوقوف وراء الحادث مباشرة كسابقتها في تفجيرات (نورد ستريم 1،2 ) تحت بحر البلطيق، وربما من خلال إناطة المهمة بالقيادة الأوكرانية.
إلّا أن زلينسكي رفض الاتهامات الروسية والتي وصفها الأمريكيون -من جهتهم- على لسان أنتوني بلينكن بأنها مبهمة فلا يستطيعوا تأكيدها أو نفيها.
إذن هل كانت عملية الاختراق جزءاً من لعبة أمنية روسية بغية استثارة الشعب الروسي لهدف تعبوي طارئ! كما تشيع بعض الصحف الغربية! بذريعة أنه من الصعب اختراق المستويات الدفاعية الروسية الثلاثة التي توفر الحماية للعاصمة موسكو كما سنوضح تالياً، وبوسع القارئ استنباط نتيجتين من خلال البحث في المستويات الدفاعية الروسية:
الأولى التوافق مع الرواية الغربية غير الرسمية في أن العملية تعتبر جزءاً من عملية روسية استخبارية لغايات تعبوية
والثانية أن تكون عملية استخبارية أوكرانية بتورط أمريكي بغية التخلص من الجوكر الروسي "بوتين" وبالتالي خلط الأوراق وتحفيز الشعب للانقلاب على رئيسهم.
فاختراق أجواء موسكو أشبه بالمستحيل، فما بالكم والعملية نفذت فوق قبة الكرملين بوجود العلم فوق ساريته تزامناً مع اجتماع مفترض للقيادة الروسية رغن نفي الكرملين!
ولفهم ذلك سنعرج بكم إلى المستويات الدفاعية التي تضمن أمن موسكو:
- المستوى الدفاعي الأول وهو مسخر ضد الأهداف المعادية الأخطر والباهظة التكاليف وتضم منظومة صواريخ S-500، إلى جانب منظومتي (S-300 S400).
ووفق الخبير العسكري يوري كنوتوف، فأن المنظومة الصاروخية الروسية الجديدة S-500 يمكنها إصابة الأهداف حتى في الفضاء. وهي عبارة عن مجمع روبوت، مزود بذكاء اصطناعي يمكنه ذاتياً تحديد وتمييز الأهداف إن كانت صديقة أم عدوة، واختيار الهدف الأخطر ونوع الصاروخ وإطلاقه، وهي مُعَدَّةٌ لإسقاط الأهداف الأكثر قيمة مثل: طائرات ف35، الأقمار الإصطناعية، أو صواريخ فرط صوتية.
بينما يمكن للنظامين الآخريْن استهداف ما دون هذا المستوى من الأهداف من حيث التقنيات والتكلفة كطائرات F16.
- المستوى الثاني وهو مسخر في الغالب للأهداف متوسطة المدى، باستخدام منظومة صواريخ بوك.
وهو نظام صاروخي ذاتي الدفع متوسط المدى، ملحق به نظام صواريخ أرض-جو. ولديه القدرة على مهاجمة أهداف أرضية؛ لصّد ومواجهة صواريخ كروز، والقنابل الذكية، والطائرات ذات الأجنحة الثابتة والدوارة، والطائرات بدون طيار إذا تم رصدها.
- المستوى الثالث فيضم منظومة بانستير S1 التي تسخر لكل الأهداف ذات التحليق الهابط خارج نطاق الرادارات الذكية.
النظام بوسعه إطلاق النار في حالة الحركة والتوقف وبإمكانه متابعة 20 هدفاً في وقت واحد وإطلاق الصواريخ على 4 منها. وتصل سرعة الصاروخ إلى 1300 م/ث.
فهو قادر على مجابهة جميع أنواع التهديدات المعادية سواء كانت طائرات مقاتلة، مروحيات، طائرات دون طيار -كالمسيَّرتين التيْن استهدفتا الكرملين صباح الأربعاء الماضي- أو صواريخ كروز، وذلك على مديات تصل إلى 20 كم وارتفاع حتى 15 كم.
فكيف إذن تخترق مسيَّرتان كل هذه المستويات الدفاعية! وخاصة نظام بانستير S1 الصاروخي القادر على رصد وملاحقة مستويات التحليق المنخفضة! فلا مفر! فاين يكمن السر!
وفي كل الأحوال فالعملية تتضمن العديد من الرسائل لعل أهمها أن التحالف الأوكراني الغربي ماضٍ حتى تحقيق الحد الأدنى من أهدافه ولو بالمفاوضات المشروطة أو بإلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا.
ورسالة أخرى لقادة أوروبا في أن أمريكا تقود القارة العجوز إلى الهاوية ورغم ذلك يقفون إزاء إرادة العم سام عاجزين.
وهذا يفسر أيضاً حالة التذمر التي تعيشها أوروبا وخاصة ألمانيا وفرنسا والمجر، من خلال ما دعا إليه فيكتور أوروبان، رئيس وزراء المجر، الخميس الماضي، موجهًا حديثه إلى ترامب في إدانة مباشرة لجو بايدن نفسه:
"إرجع يا سيادة الرئيس، إجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى واجلب لنا السلام"، بحسب وكالة "أسوشيتد برس".
في المحصلة فإن التداعيات لن تتوقف عند تعهد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماع شنغهاي للتعاون المنعقد في الهند.. بأن روسيا سترد بإجراءات ملموسة على الهجوم الأوكراني ضد الكرملين. إذْ تبقى الرهانات مفتوحة على المجهول.
فهل سَيُغَيِّرُ حادثُ الهجوم على الكرملين قواعدَ الاشتباكِ في حرب طاحنة لم يشهدْ لها العالم منذ بداية هذا القرن مثيلا.