جلستُ امام ماكينة الخياطة كعادتي كل ليلة ، اسابق الوقت لأكمل مابيدي ، المدارس على الأبواب والكل يريد ملابسه في الوقت المناسب .
"رحمه الله ، ارجو ان اوفق في حمل المسؤلية من بعده "،مسحت دمعة سقطت رغماً عني وانا اتذكر زوجي الطيب وجهاده المتواصل ليوفر لي ولابنائنا الخمسة كل مانطلبه ، الحمل كان ثقيلاً عليه ،ربما لم اعرف ذلك الا عندما حللت مكانه.
لم يقطع حبل افكاري الا طرقات قوية على الباب الخارجي ، حدقت في ساعة الحائط وقلبي يدق بعنف ، الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل (اللهم اجعله خيراً ) .
-ياعمتي اطلعوا بسرعة للسطاح ، الوادي جانا.
كان ابن جيراننا يتحدث على عجل والذعر يتجلى في عينيه وكل قسماته.
اتجهت وابنائي الخمسة الى السطح بسرعة ، بعد وقت يسير وجدنا الماء يحيط بنا من كل جانب ، طلبت منهم ان يتمسكوا ببعضهم جيداً وان يكبروا ويستغفروا ، مال البيت ثم تهاوى وكأنه بيت من رمال وذهب كل منا في اتجاه ، ، كان الماء يغمرني احياناً فأتشهد وارى الموت ماثلاً امامي ثم ينتشلني فجأة ويعلو بي مرة اخرى، شعرت بشيء ثقيل ورائي لم اعرف ماهيته ، قربني الماء من بلكونة احدى الشقق في الدور الخامس، تشبثت بها ، نظرت خلفي فإذا ذلك الثقل الذي شعرت به كان سيارة تلاحقني ، شاء القدر ان يأخذها التيار الى مسار آخر قبل ان تطحنني على جدار الشرفة ، رأيت رجال على ضوء هواتفهم في العمارة الضخمةالمجاورة ، طلبت منهم المساعدة لكنهم ابدوا قلة حيلتهم فالماء في الشارع كالجبال يأخذ كل شيء امامه دون رحمة ، نصحوني بضرورة القفز الى البلكونة وتحطيم الزجاج قبل ان يغمر الماء المكان بالكامل ، كانت اصوات تشجيعهم ومحاولاتهم لانقاذي حافزاً لي لتكرار المحاولة ، "سأنجو من اجل ابنائي لن اتركهم وحدهم ".
بعد محاولات مضنية نجحت في القفز وتحطيم زجاج النافذة ، جرحت اصابعي ودراعي جراح بالغة لكنني لم اشعر بها ، سمعتهم يكملون ما بدأوه ويطلبون من الرجال الموجودين على سطح العمارة التي قفزت بها انقاذي ، الاعياء بلغ مني مبلغاً كبيراً عندما وصلت السطح ، صور ابنائي تراقصت امامي ، اصوات صراخهم ، لحظة تهاوي بيتنا ، الدنيا تدور وتدور ولم اعد اعي شيئاً مما حولي.
.
لم اصدق جواب كل من سألته عنهم ذلك الصباح المشؤوم:
-ابنائك في عداد المفقودين ، تفقدي الجثث ربما تجدينهم.