أن المنطقة المحببة للولايات المتحدة الأمريكية في العالم هي منطقة الشرق الأوسط حيث قد جعلت الديبلوماسية نشطة بتحركها الدؤوب نحو المنطقة التي تعيش وضعية محرجة وحساسة بسبب حرب إسرائيل على غزة، وهي ما كانت الزيارات المكوكية والمكثفة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط للمرة الثانية وحول العالم في أقل من شهر، متنقلاً من عاصمة إلى أخرى في جولات لبحث تطورات الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة، من دون تحقيق تقدم يذكر بالنسبة إلى تصاعد وتيرة الصراع، ( 10 ) توقفات في ستة أيام شملت دولاً عربية وإسرائيل، تبعتها بعد نحو أسبوعين جولة أخرى شملت ست محطات في المنطقة، وتضمنت تل أبيب ورام الله وعمان وقبرص وبغداد وأنقرة واستغرقت أربعة أيام من دون أن تزيد زيارته في كل من هذه الأمكنة على بضع ساعات، قبل أن يكمل رحلته باتجاه طوكيو وسيول في أقصى الشرق الأسيوي، أعادت للأذهان الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي الأشهر هنري كيسنجر إلى المنطقة ذاتها، في أجواء حرب أكتوبر 1973 قبل خمسين عاماً، لكن مع الفوارق في التشبيه والسياقات، وليس مثل كيسنجر، والدخول الأميركي في الصراع والحرب على غزة بشكل مباشر يعوق عمل كبير دبلوماسييها خاصة وأن أزمة الشرق الأوسط الراهنة ليست كسابقاتها، وأية مقارنة بجولتي كبيري الدبلوماسية الأميركية في 2023 وفي سبعينيات القرن الماضي تصب في مصلحة كيسنجر، عناوين عدة أبرزتها التقارير والتحليلات الغربية في التعاطي مع جولات بلينكن المكوكية إلى منطقة الشرق الأوسط، للتعامل مع مأزق الحالة الإسرائيلية، في أعقاب حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وعملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة حماس والفصائل الفلسطينية في السابع من تشرين أول/ أكتوبر عام 2023، وكانت قد دخلت الحرب في قطاع غزة شهرها الثاني مع إقتراب تعداد الضحايا من هذه الحرب الهمجيه والبربرية من حاجز الـ11 ألف شخص، معظمهم من المدنيين وبينهم أكثر من 4650 طفلاً، فيما تجاوز حاجز القتلى من الجانب الإسرائيلي 1400 قتيل، وحتى الآن يخضع قطاع غزة منذ التاسع من أكتوبر الماضي لحصار كامل من إسرائيل يشمل الحرمان من إمدادات المياه والغذاء والدواء والوقود والكهرباء، فيما يتخذ الوضع الإنساني المتدهور أصلاً أبعاداً كارثية وغير مسبوقة بالنسبة إلى السكان البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، وبعد عمليات قصف مركز في المرحلة الأولى من الحرب تشن إسرائيل منذ الـ27 من أكتوبر الماضي عمليات برية في شمال القطاع حيث تدور معارك عنيفة مع مقاتلي "حماس" والفصائل الفلسطينية بين أنقاض الدمار، وعلى مدى أربعة أيام في الشرق الأوسط، عاد بلينكن في الثاني من تشرين ثاني/ نوفمبر الجاري لمنطقة الشرق الأوسط، ولمدة أربعة أيام توقف في ست محطات، بحثاً عن تحقيق تقدم في ما يتعلق بفترات الهدنة الإنسانية ألتي تسعى واشنطن من خلالها إلى إدخال مزيد من المساعدات إلى غزة، فضلاً عن الإطلاع على الخطط الإسرائيلية العملياتية على الأرض وبحث أخر تطورات ملف الرهائن لدى حماس وبخلاف حديثه الذي تركز على أنه ( يهودي ) جاء للتأكد من جاهزية إسرائيل في الدفاع عن نفسها وليس فقط ككبير الدبلوماسيين الأميركيين خلال جولته الأولى منتصف تشرين أول/ أكتوبر الماضي ألتى شملت زيارة إسرائيل مرتين وتخللها هروب إلى الملجأ، فضلاً عن التوقف في الرياض والدوحة وأبو ظبي وعمان والقاهرة، عكست التصريحات وطبيعة النقاشات المطروحة ألتى تصدرت جولة بلينكن الثانية في المنطقة حجم التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب على وقع تراجع الدعم الشعبي العالمي لإسرائيل في الحرب إثر الأضرار الواسعة التي خلفها قصفها للمدنيين في قطاع غزة.
وقبيل جولته الثانية في المنطقة شدد بلينكن على ملفين رئيسين حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحماية المدنيين في قطاع غزة، في وقت يقال فيه بأن الولايات المتحدة ستضمن حصول إسرائيل على ما تحتاج إليه للدفاع عن شعبها ضد جميع التهديدات، بما في ذلك من إيران والجماعات الوكيلة لها في المنطقة، وفي الوقت نفسه، فإن الطريقة ألتي تدافع بها إسرائيل عن نفسها مهمة "، مضيفاً أن "المدنيين الفلسطينيين ليسوا مسؤولين عن الفظائع ألتي ترتكبها حماس أو عن الأزمة الإنسانية الخطرة في غزة، إنهم ضحاياها، وكما هي الحال مع المدنيين في أي صراع، يجب حماية حياتهم. وهذا يعني أن تدفق الغذاء والماء والدواء والوقود وغيرها من المساعدات الإنسانية الأساسية إلى غزة يجب أن يزداد بصورة فورية وعلى نحو كبير، وكانت قد أبقت إسرائيل على إحكام حصارها لقطاع غزة من دون السماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية، قبل أن توافق بجهود أميركية ومصرية وقطرية على السماح المحدود لدخول المساعدات، من دون إدخال الوقود، إلا أنه وبحسب المنظمات الدولية والإنسانية، لا يزال "من دون المستوى"، ووفق رؤية بلينكن، في مقالته المعنونة الدفاع عن إسرائيل أمر ضروري، وكذلك مساعدة المدنيين في غزة،وذكر أن المدنيين الفلسطينيين يجب أن يكونوا قادرين على البقاء بعيداً من الأذى، ويعني ذلك أنه يجب إتخاذ كل الأحتياطات الممكنة لحماية المواقع الإنسانية، ويعني ذلك ايضاً أنه يجب الأخذ في الأعتبار فترات توقف إنسانية لهذه الأغراض، لكنه عاد وذكر أن " التزام هذه المعايير أمر صعب في أي صراع، ناهيك عن مواجهة عدو يستخدم المدنيين باءستخفاف ووحشية كدروع بشرية ويطلق الصواريخ من المستشفيات والمدارس والمباني السكنية، وعلى رغم هذه التحديات، فإن منع وقوع كارثة إنسانية في غزة أمر حيوي لأمن إسرائيل، على حد وصفه "، معرباً عن قلقه في الوقت ذاته من " إحتمالات أن يتوسع الصراع، وفي ختام جولته الثانية وقبيل مغادرته إلى طوكيو ضمن الجزء الآسيوي من جولته، أوضح بلينكن أن " واشنطن تركز على إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة وستواصل العمل مع الإسرائيليين في ما يتعلق بخطوات للحد من الخسائر في صفوف المدنيين "، لكنه أقر بعدم تحقيق إنفراجة، وقال كل ذلك تقدم حاصل، فهل أحرز بلينكن تقدماً على صعيد الأهداف المرجوة من المقاربة الأميركية في الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة؟ وأنا أقول كمراقب الأمر لا يبدو كذلك، لا سيما أمام المقاربة الذي تتبناها واشنطن مع رفض الدعوات المتزايدة من أنحاء العالم إلى وقف إطلاق النار، على إعتبار أن هذا الأمر لا يخدم سوى مقاتلي حركة حماس، مع التأكيد على المضي قدماً نحو إقرار هدن إنسانية موقتة، وفي الوقت ذاته أن أحد الأهداف الكبرى للتحرك الدبلوماسي الأميركي في الصراع هو التشديد على عدم تمدد الصراع أو إتساع رقعته في المنطقة، وعليه تسعى إلى التأكيد على الأطراف كافة بتجنب سيناريوهات كهذه، وفي أكثر من مناسبة أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان بلينكن والرئيس الأميركي جو بايدن رفض دعوات وقف إطلاق النار، وتستعوض عن ذلك بالحديث عن مطالباتها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالموافقة على هدن إنسانية، وهو الأمر الذي يربطه الأخير ب التوصل إلى اتفاق في شأن الرهائن، وهناك نقطة أخرى بدت شائكة وعكست حجم التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب تجلت في سؤال اليوم التالي ومستقبل قطاع غزة ما بعد الحرب الراهنة، مما دفع بالبعض إلى إعتبار أن الرؤى التي طرحها بلينكن مع نظرائه في المنطقة خلال جولته الثانية لم تلقَ أي ترحيب أو تأييد وقوبلت برفض واسع، مما عكس المأزق الذي تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها التقليديين في التصعيد الحالي، وقبل جولته الثانية فالولايات المتحدة ودولاً أخرى تدرس مجموعة متنوعة من البدائل المحتملة لمستقبل قطاع غزة إذا عُزلت حركة حماس من الحكم، ونقلت عنه تصريحات أدلى بها خلال جلسة إستماع للجنة المخصصات في مجلس الشيوخ قبل أيام من جولته الثانية، بأن الوضع الراهن الذي تتولى فيه حماس المسؤولية في القطاع المكتظ بالسكان لا يمكن أن يستمر، لكن تل أبيب لا تريد إدارة غزة أيضاً، متحدثاً عن عدد من البدائل المحتملة التي تجري دراستها، فيما شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنتين وزاريتين للعمل على بلورة موقف إزاء مستقبل القطاع، ومن بين الخطط التي يجري الحديث حولها في وسائل الإعلام الأميركية، نشر قوة متعددة الجنسيات ربما تضم قوات أميركية وهو ما نفته واشنطن لاحقاً، أو وضع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة بصورة موقتة، بينما يرى بلينكن أن ما سيكون أكثر منطقية في مرحلة ما هو وجود " سلطة فلسطينية فاعلة ومتجددة " تتولى حكم غزة والتي ترفضها حركة حماس جملة وتفصيلا وحسب ما جاء على لسان اسامه حمدان ممثل حركة حماس في بيروت في مؤتمره الصحفي أمس عندما قال " غزة لا يحكمها إلا أهلها " ، لكن السؤال المطروح هو ما إذا كان تحقيق ذلك ممكناً، وأوضح وزير الخارجية الأميركية في حديثه أمام الكونغرس أنه " إذا لم نتمكن من ذلك، فهناك ترتيبات موقتة غيرها قد تشمل عدداً من الدول الأخرى في المنطقة، وقد تشمل وكالات دولية تساعد في توفير الأمن والحكم "، في وقت هناك من يرى بأن جولة بلينكن في المنطقة غير فاعلة نظراً لحجم وتعقيد الأزمة الدبلوماسية ألتي يواجهها كبير الدبلوماسيين الأميركيين، فجولته الأولى منتصف تشرين أول/ أكتوبر الماضي كانت مقررة ليومين وامتدت لستة أيام و10 محطات توقف، خاصة وأن حجم وتعقيد الأزمة يتجلى في تشابك الأهداف بين التأكيد على دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل واتساع النقد العربي على الرد الإسرائيلي، فضلاً عن ملف الرهائن والعمل على منع إنتشار النزاع لكي يضم إيران وحزب الله ويورط الولايات المتحدة فيه، وبعكس أزمات سابقة، كشفت الحرب الراهنة على غزة وتداعياتها الإنسانية عن إنقسام في المجتمع الأميركي، ويواجه بايدن ضغوطاً متزايدة في الداخل لإرغام إسرائيل على إتخاذ خطوات لتقليل أعداد القتلى المدنيين خلال حملتها العسكرية، إلى جانب الضغط من أجل وقف القتال لتسليم المساعدات ونقل السكان إلى أماكن أخرى، مما يصعب مهمات بلينكن، وهناك من يرى بأن هناك تبايناً بين جولة بلينكن وجولات كيسنجر المكوكية في المنطقة إلى أنه وعلى رغم أن الأخير لا يزال يحتفظ بالرقم الأول في الدبلوماسية المكوكية، إذ قام بـ33 رحلة لكي يتوصل إلى فك ارتباط سوريء إسرائيلي بعد حرب تشرين أول/أكتوبر 1973، فإن زيارات وزير الخارجية الأميركي الراهن تعكس عدم اليقين والفوضى في الأزمة ألتي لم تعرف الإدارة بأنها مقبلة والتعقيدات والتحديات لما هو آتٍ، وعلى رغم إختلاف السياقات والتوازنات، تعرضت الدبلوماسية الأميركية لأختبار مشابه في دعمها المطلق لإسرائيل وإدارة أزمة حرب السادس من تشرين أول/أكتوبر 1973، حين شنت القوات المصرية والسورية في توقيت واحد وبدعم عربي، هجوماً واسعاً على إسرائيل لأستعادة أراضاً كانت أحتلتها الأخيرة عام 1967، ومن بين غبار حرب أكتوبر، صعدت الدبلوماسية المكوكية" لكيسنجر الذي اضطلع خلالها بدور رئيس في التأثير في مجريات توازنات القوى في المنطقة، بعشرات الزيارات بين دمشق والقاهرة وتل أبيب وعواصم عربية أخرى، ليتوصل في النهاية إلى إتفاقات وقف لإطلاق النار والتهدئة، إتفاقان في سيناء بين مصر وإسرائيل، وإتفاق فض الأشتباك بين سوريا وإسرائيل في الجولان، وكذلك أسهم في رفع " أوبك " لحظرها النفطي الأميركي وصعدت " الدبلوماسية المكوكية لكيسنجر في المنطقة بعد أن لعب دورا رئيساً في التأثير على مجريات توازنات القوى إبان حرب 1973 وبحسب ما أورده هنري كيسنجر خلال حديثه الأخير في الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر إلى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، فإنه والرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون وطاقم البيت الأبيض عملوا بصورة قوية وحثيثة منذ البداية على " منع نصر عربي على إسرائيل، ورأينا في نصر كهذا ضربة للولايات المتحدة الأمريكية نفسها لأنه كان من الممكن تفسيره على أنه انتصار سوفياتي علينا "، مشيراً إلى أنه وفي الوقت نفسه، أدى ذلك ليس فقط إلى التأثير في سير المعارك على الأرض، بل كان له وزن كبير في المحادثات اللاحقة التي أنتهت إلى إتفاق سلام بين مصر وإسرائيل ( كامب ديفيد ) واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن والقاهرة، وذكر كيسنجر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ثم أصبح وزيراً للخارجية، أن هذا الموقف اتخذ " فور وصول النبأ عن نشوب الحرب "، وقال إن " صورة المعركة كانت مختلفة تماماً عن تلك ألتي رسمها الخبراء الأميركيون في مخيلتهم عندما أنتشرخبر الهجوم المصري، فقد دارت كل المحادثات حول الحرب على إفتراض أن التفوق العسكري كان لمصلحة إسرائيل، لم نأخذ على محمل الجد أبداً إمكان إضطرارنا إلى التعامل مع وضع يتمتع فيه السوفيات بميزة أو تفوق ما، مشيراً كذلك إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قررت منذ اللحظة الأولى إقامة جسر جوي من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل لإعادة تزويدها بالأسلحة، لكن كيف أدار كيسنجر الجهود السياسية والدبلوماسية عبر جولاته المكوكية في المنطقة للتوصل إلى تهدئة، جاءت ثمارها الأولى في إتفاق وقف إطلاق النار الأول على الجبهة المصرية في الـ22 من تشرين أول/أكتوبر 1973؟
وفق ما كتبه السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى مارتن إنديك في كتابه " سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط "، عن إستراتيجية كيسنجر في الشرق الأوسط، فقد " كان الأخير ناجحاً في كسب ثقة العرب، وهو ما يفتقر إليه عدد من وزراء الخارجية الذين أتوا من بعده وتعاملهم مع هيكلة عملية السلام في الشرق الأوسط والتي يعززها دور نشط للولايات المتحدة "، موضحاً أن كيسنجر " تمكن من المراوغة بمهارة فائقة لتحقيق أربعة أهداف طموحة ومتناقضة إلى حد ما وفي آن واحد، ضمان إنتصار إسرائيل كحليف لأميركا على القوات المصرية والسورية المدعومة من الإتحاد السوفياتي، ومنع وقوع هزيمة فادحة للجيش المصري حتى يتمكن زعيمه أنور السادات من الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل تعيد له جزأً من الأرض، وإثبات أن الولايات المتحدة الأمريكية هي وحدها القادرة على تحقيق نتائج للعرب على طاولة المفاوضات، وأخيراً الحفاظ على الأنفراجة في العلاقات مع موسكو على رغم أنه كان يعمل على تقويض النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط، ويتابع إنديك، " كانت المفارقة الكبيرة في هذه الحقبة تكمن في أنه حتى تحقق السلام في الشرق الأوسط عليك أن تبدأ الحرب أولاً، كانت تلك هي نية السادات وفهمها كيسنجر الذي إنطلق إلى العمل في اللحظة ألتي علم فيها باءندلاع الحرب لأنه أدرك بسرعة أنها خلقت فرصة سانحة يمكنه أستخدامها لتشكيل واقع جديد "، وذلك في إشارة إلى ( القناة السرية ) ألتى كانت تربط كيسنجر بمستشار الأمن القومي للرئيس السادات حافظ إسماعيل قبل أشهر من الحرب، وبحسب رواية كيسنجر ذاته، ففي شباط/ فيبروري عام 1973، أي قبل نحو ثمانية أشهر من الحرب، أرسل الرئيس السادات مستشاره لشؤون الأمن القومي حافظ إسماعيل إلى واشنطن لبحث إمكان التحرك نحو عملية سلام، قائلاً إن المبادرة كانت مبنية على وجهة النظر العربية التي تنص على إنسحاب إسرائيلي إلى الحدود ألتي سبقت حرب 1967 في جميع القطاعات، مقابل الإعتراف العربي بإسرائيل، إلا أن جميع الأطراف الإسرائيلية عارضتها بشدة، وكذلك هو والرئيس نيكسون، وعن تفاصيل جولاته المكوكية، يقول وليام كوانت في كتابه عملية السلام إن كيسنجر قام بالتطبيق العملي لما يقتنع به أي أنه لا بد من أن تسير القوة والدبلوماسية جنباً إلى جنب، وأنه لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية مطلقاً أن تعتمد في الشرق الأوسط على القوة وحدها أو على المفاوضات وحدها، وكان إيجاد التوازن الحرج بين الاثنين هو محك إختبار حنكة رجل الدولة، ولا بد من النظر إلى إمدادات السلاح للإسرائيليين أو للعرب كجزء من العملية الدبلوماسية وليس كمسألة عسكرية بحتة، ومهما كانت المشكلات ألتي واجهت كيسنجر في تعامله مع هذا المبدأ، فإنه كان يرى بوضوح أن الإعتبارات السياسية ترجح الإعتبارات العسكرية في هذا النوع من القرارات ، مضيفاً أن " معرفة كيسنجر بالأمور ألتي يريد أن يتجنبها كانت أفضل من معرفته بما يريد أن يحققه من أهداف إيجابية "، وكانت حرب أكتوبر بمثابة المرجع المباشر الذي يعود له دائماً، إذ كان الدرس المجرد المستمد من تلك الأزمة هو أن الوضع القائم في الشرق الأوسط متقلب وخطر وقد يتفاقم، مما يؤدي إلى آثار خطرة على المصالح الأميركية العالمية والإقليمية، لذلك كان من اللازم تثبيت الوضع القائم من خلال الجمع بين الدبلوماسية وشحنات السلاح، كما يتعين البدء بعملية سياسية تقدم للعرب بديلاً عن الحرب، وفي المقابل، ووفق رواية وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي إستقال من منصبه أعتراضاً على زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977، في مذكراته التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط، فقد تم تضخيم دور صورة كيسنجر، إذ إن صفاته وطموحه وتصلبه وقوته في تحقيق أهدافه غير كافية لتبرير قيامه بهذا الدور، كما أنه لم يحقق نجاحاً من خلال إستراتيجية شاملة مترابطة في شأن تحقيق تسوية عادلة في الشرق الأوسط، لأنه لم تكن لديه مثل هذه الإستراتيجية، معتبراً أن ما ساعد كيسنجر على تحقيق هذا الدور البارز في الشرق الأوسط هو فوق كل شيء وجود السادات رئيساً لأكبر دولة عربية وهي مصر، وعادة الديبلوماسية النشطة والمنحنكة والدؤوبة الحركة هي عادة من تصنع الحدث .