هي ايّام الحليب الطازج الساخن صباحاً ، وتجمعنا حول موقد نار الحطب ودموعنا تتسايل من شدة دخان الحطب فتعشقه ملابسنا .
ووالدنا يعدّ القهوة ، فينهض ويرمي بفروته الصوفية ليضعها على ظهورنا خوفاً علينا من البرد ، فنأخذ وننظر الى بَعضُنَا بحبّ كبير ونتراص حتى تتسع لنا جميعًا ، فنأخذ ونتقاسم الخبز ونشرب الحليب مسرعين لأن الباص سيمرُ مبكراً وعلينا أن نسير لنصل الى (طريق الأسفلت) لنركب لنذهب إلى المدرسة حيثُ كان الباص الوحيد آنذاك .
فيأخذ كلّ منا بحذائه فيلبسه اذ كانت حينها (الجزمة البلاستيكية) فرحتنا الكبرى ، فنسرع وفِي طريقنا تلك المياة المتجمعة هنا وهناك ، نأخذ ونقفز بها لتطرطش بذرات مائها العذبة على وجوهنا ، ونحن نتراكض وننشد بفرح طفولي "عشتي وزيدي بيتنا حديدي..عمنا عبدالله ورزقنا ع الله” ، فنكررها مرارً وحين تتساقط ذرات صغيرة من المياة يصرخ أحدنا وهو يقفز (والله ردت علينا ، نعم ردت علينا)..يا لتلك البراءة.
الى ان نصل الى طريق الأسفلت الذي أخذ يلمع بوميض ساحر من تساقط حبات المطر ، فنركب الباص ونبقى واقفين (فلا بأس علينا المهم أن نصل للمدرسة فالمسافة بعيدة جداً من بيت الشعر الى المدرسة في منطقة أخرى).
فإذا بفيروز تطرب لها الأسماع تغني ” شتي يا دنيي تيزيد موسمنا و يحلى.. وتدفق مي و زرع جديد بحقلتنا يعلى .. ”
فتأخذنا نظراتنا إلى الخارج من خلف زجاج شباك الباص، فإذا بالمياة قد ملأت الشوارع ، وهناك عند محطة البنزين القديمة ، قد أصطف الناس وجالوناتهم معهم إذ تفوح منها رائحه الكاز ، تلك الجالونات الحديدية ذات اللون الأخضر الجيشي ، والرجال قد لبسوا ذاك (الكبوت الطويل ذَا اللون الأخضر الجيشي الفوتيك) والشماغ الأحمر وقد تلثموا من البرد ، ووضعوا طرفيه بعقالهم من الأعلى ، فتشعر بالقوة والجأش لتكبر وتلبسه وتضع العقال على رأسك كما هم ، الذي يشعرك بأن هناك من يرعاك بعد الله ..
وهناك حين نصل الى المدرسة ، نتقافز هنا وهناك مع البقية لعلنا نجد تجمعاً للمياة ، لنلعب بجزماتنا ولنُري أصحابنا بأنها لا تبلل ملابسنا مع تلك الضحكات البريئة ..
نصطف على الطابور المدرسي ولو نظر أحد من مستوى عالٍ قليلاً ، لرأى كل ألوان الكون قد لبسناها ، فكأنها حديقة أزهار أنبتت أجمل الألوان . وما هي إلا لحظات وتدخل المعلمة علينا فنحييها بتحية ( الدنيا برد الدنيا برد ..ست نوفه عّم تقطف ورد ) ،فتأخذ المعلمة بسؤالنا : بردانين ؟ فنرد عليها بصوت عال : نعم فتأخذ وتقول : (يلا الكل يفرك أيديه واتحركوا وأنتو واقفين ).
فتملأ نفوسنا الفرحة ونحن ندفئ أيدينا ونضعها على وجوه بعضنا ثم نبدأ درسنا بفرح وسرور غامرين.
بردٌ مطبقٌ يجعلنا نهرول الى بيوتنا ، وقد إحمرت خدودنا وأنوفنا من البرد ، ولكننا ما زلنا نغني (عشتي وزيدي بيتنا حديدي..عمنا عبدالله والرزق ع الله) ، وننظر الى السماء والى تلك الغيوم وهي مسرعه فنأخذ ونسابقها وحين تنزل بعض حبات المطر ، نأخذ ونفتح أفواهنا وأيدينا الصغيرة للسماء ونحن نركض ونضحك بصخبٍ طفولي ، ونقول (لقد شربنا.. نعم شربنا..) .
وحين نصل تكون شوربة العدس (صديقة الشتاء الأزلية ورفيقته ) ، قد أُعدت ساخنة ، فيأخذ كل منا بصحن ويفتُ فيه بعض الخبز ، فيدفئ أوصالنا التي بردت من غير أن نشعر ، كانت تكفي وتُشبع.
ثم نذهب لمساعدة والدنا في وضع العلف للأغنام ، او ربط بعض (البهم ) ، او عزل البعض في ( الصيرة ) لوحده ، الى مغيب الشمس ، فنبدأ بأداء واجباتنا المدرسية وقد أشعلت والدتنا لنا الفانوس ، وتتجمع العائلة حول موقد النار وهي تستمع الى نشرة الراديو ، في انتظار البيان الهام ، فيعلن المذيع بصوته الجهوري ذاك عن عاصفة ثلجية قادمة وتستمر لعدة ايّام ، فيعلو الضجيج ، لكننا نسرق أنفسنا الى (الوهده ) وهي مكان نومنا ، وعلى فراشنا نتقافز فرحاً بعطلة قادمة ، في حين يقبل الرجال من الجيران (قصرانا) فيتدارسون الأخبار ، ويخبرون بعضهم بحدسهم وخبرتهم بالطبيعة ، وماذا يتوقعون وماذا عليهم أن يفعلوا.
أما الأم فتطمئن على اطفالها ، وتخفي حماسها بوقار كبير.
في تلك الليلة شعرنا بهدوء كبير لكننا لم نعلم ما سببه ،في حين بقي الأب متيقظاً ومتفقداً لاغنامه ، فيحضر بعض صغارها ويضعها في البيت بالقرب من النار ، وبعضه الآخر يدفئه في الفراء ، والام بقيت متيقظة ، متفقدة للبيت وأعمدته ، وأروقته ونواجيه (الناجي) "وهو تلك القناة التي تحفر حول البيت من الداخل والخارج لتمنع دخول الماء الى الداخل ” ، وتحافظ على الحطب من البلل من الماء.
ليلٌ طويلٌ على الوالدين ، وفي الصباح يصحو الجميع على هدوء غريب ، فالسكون يعلو فوق كل الأصوات ، والابيض يهزم كل الألوان.
كان البيت مضيئاً وكأن نورًا خفيفاً كان يملأه .
فننهض متلهفين ، لنرى منظراً لم ننساه أبداً ، فبيت الشعر الأسود قد أصبح أبيضاً بكامله ، وتلك الحبال المرتخية قد اشتدت وابيّض لونها ، وكومة الحطب التي بجانب البيت لم نعد نراها ، وبراميل المياة قد بانت اطرافها ،
والأغنام واقفه تنفض اطرافها وتنظر للسماء وكأنها تشكرها على هذه النعم ، ثم تسرع الى معالفها حين اشتمت رائحة العلف ، بإجراسها وقراقيعها ومراييعها.
فنلتفتُ الى معاطفنا الملونة وقبعاتنا المضحكة فنرتديها ونحن نغني ( أبو طربوش أحمر منقوش بست قروش يا بلاش) ثم نذهب لمعاونة أبينا ، وتفقده للأغنام وخرافها الصغيرة ، وأيدينا وخدودنا وأنوفنا تحمر من البرد لكنّا لا نشعر به لفرحتنا بالثلج الأبيض.
لم نكن نعرف رجل الثلج ولا اللعب بالثلج ، وإنما كنّا نسرع لإزالة الثلج عن بيت الشعر مع والدتنا ، وتدفئة الصغار من الأغنام بجانب موقد النار ، ووضع العلف في المعالف بعد ازالة الثلج عنها ، والكل يستمع الى صوت الراديو ومازن القبج فنسمع أغنية( محلا الدار والديره ونبع الفــــــــوار ) وكلمات الشاعر سليمان عويس:
صباح الخير عأهل الخير أهلي ولمة الأحباب..
صباح الخير عالزارع وعالصانع على الطلاب والعسكر..
صباح الخير عالتلة وعالوادي..
على الطيون واللزاب..
كلمات تدفع بك إلى الأمام وتشحذ الهمم .
سقا الله أيامنا أيام زمان ، إذ كانت السعادة فيه على أطراف أرواحنا متاحةً ، وسهلة المنال.
كلّ حدثٍ كان له رونقه ، فكانت الثلجة تاريخُ ميلاد وعدادٌ للسنوات ، إذ كان الثلج دافئاً حتى لو وصلت برودته إلى أوصالنا ، فينزل بصمتٍ يملأ الأرجاء ، فينشر الهدوء والنقاء ، حين كان كلّ شيء أبيض.