أٌصّر دوما على موقفي من اعتبار ما يحصل في الوطن العربي لا يزيد عن كونه فوضى عارمة اجتاحت المجتمع العربي وأدخلته في مسار عنف دموي لا مثيل له. فالثورة لها مفهومها وظروفها ولها أيضا نظرياتها ومنظريها، في حين ما حصل في العالم العربي هو تحصيل حاصل لاحتقان شعبي اندلع فجأة. وبعد انهيار بعض الأنظمة ركب قطار الفوضى رجال أحيانا باسم الدين وأحيانا باسم العلمانية وأحيانا باسم الحرية والإنعتاق وشعارات فارغة أخرى.
وفي ظل هذا الصراع السياسي الحاصل يتم تشويه الحقائق أي بمعنى أخر تشويه كتابة التاريخ الحديث بواسطة مثقفين انقسموا في ولائهم لتيارات متناحرة، فغابت الموضوعية والتحليل الدقيق والمحايد عن المثقف. لأن الهدف الأسمى للمثقف والثقافة عموما هو قراءة الواقع وإعادة بناء وتركيب نظريات تساعد في وضع تصورات مجتمع الغد والتنبؤ بما سيحصل مستقبلا في ظل مجريات الأحداث.
فالكثير من المثقفين في المجتمع العربي للأسف، كل ما يقومون به هو التمجيد والتصفيق لهذا الشخص أو تلك الجماعة أو التشويه بهذا الشخص أو هته الأفكار دون مراعاة واحترام دوره الأساسي والإنساني الذي يهدف إلى خدمة المجتمعبكل أطيافه أكثر من الدفاع عن أشخاص ومذاهب وأحزاب وجماعات عرقية وقبلية.
فمعظم الكتابات التاريخية في الوطن العربي للأسف تورطت في لعبة السياسة والسلطة، لأن كل السلط والأنظمة كانت ولا زالت تريد تأكيد وجودها استنادا إلى شرعية تاريخية أو إلى قراءة خاصة للتاريخ. لذلك يصعب وجود دراسات غير خاضعة لتوجيهات السلطة ومصالحها. أحيانا يتواطأ المثقف مع السلطة وأحيانا لا تسمح لهبقول الحقيقة والكشف عن المسكوت عنه، فيمارس نفاقه السياسي ويساهم في تشويه الحقيقة والأحداث التاريخية.
في علاقته الوطيدة مع السلطة العليا يجد المثقف نفسه مندمجا في إطار أيديولوجيا سلطوية سائدة تجعل منه أداة لتمرير خطابها المشوش للحقيقة، لكنه يخدم مصلحة النخبة الحاكمة، وعوض أن يقوم بدوره الرئيسي في تنوير المجتمع والشاهد عليه فهو يقوم بنشر أفكار السلطة والدفاع عنها بقصد أو بدون قصد. هذا ما يجعل المثقف أحيانا مرهونا بالدفاع عن وقائع مجتمعية وتاريخية من أجل التخويف والترهيب، مما يجعل فكره ونظرياته يغلب عليها طابع الماضي وينفصل تلقائيا عن فهم الحاضر المعاش ولا يعطي أي أهمية للإعتبارات المستقبلية.
فثورة مايو 68 بفرنسا مثلا كان لها منظروها، سبق قيامها دراسات وأبحاث ميدانية وأفكار ونظريات عن واقع المجتمع الفرنسي آنذاك. فكان بيير بورديو وآخرون من رواد مرحلة بداية وأواسط الستينيات، استبقوا الفوضى التي يمكن أن تحصل فكتبوا عن مشاكل وخلل المجتمع الفرنسي، لذلك كان التغيير بطريقة حضارية أدى إلى ميلاد مجتمع فرنسي جديد سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
في عالمنا العربي تواطأ العديد من مثقفينا وكتابنا مع الأنظمة السياسية السابقة وبعضهم لا زال يصفق للمستبدين الجدد والبعض الأخر وبعد سقوط الأنظمة نصب نفسه مفتيا ومدافعا عن الحرية وحقوق الفرد والحق في العيش الكريم …
فكيف يمكن أن نثق في هؤلاء وكيف يمكن أن نثق فيما يدونون للتاريخ والأجيال القادمة؟ فقد عاش معظمهم يدافع عن الأنظمة وضرورة الحفاظ عليها من أجل سلامة وأمن الفرد والمجتمع.
المثقف العربي مسكون بأيديولوجيا النفاق، يصعب عليه الإنسلاخ من معطفه السياسي السلطوي ومصالحه الضيقة ليكون الفاعل الرئيسي والمنظر الموضوعي للواقع الاجتماعي المعاش من أجل تحقيق التغيير المنشود الذي يتطلع إليه المجتمع.