هكذا
يكون الكبار… حين يتحول العطاء إلى سيرة بحجم الأربدي الدكتور محمد قنديل
نيروز – محمد محسن عبيدات
حين نتحدث عن الكبار، فإننا لا نقصد بالمقام أو العمر فقط، بل نعني أولئك الذين يتركون بصماتهم المضيئة في مسيرة وطنهم وأمتهم. ومن هؤلاء الرجال الذين جسّدوا المعنى الحقيقي للعظمة والقدوة، يبرز اسم سعادة الدكتور محمد عيسى قنديل، الكاتب والباحث والمؤرخ، ابن بلدة الفالوجة – فلسطين (1942)، وأحد أبرز أعلام الفكر والمعرفة في الأردن والعالم العربي.
لقد جسّد الدكتور قنديل، خلال أكثر من نصف قرن من العطاء، صورة الرجل الكبير الذي يهب وقته وجهده لخدمة العلم والأدب، ويسخر خبراته من أجل الأجيال القادمة. فقد حمل لواء التعليم في عدد من الدول العربية لأكثر من ثمانية وثلاثين عاماً، وأسهم بخبرته الغنية في تطوير السياسات التعليمية عندما تولى منصب الباحث الرئيسي في دولة الإمارات العربية المتحدة لمدة ستة عشر عاماً، ليكون شاهداً على أن الكبار لا يكتفون بالتنظير، بل يصنعون الأثر على أرض الواقع.
وفي
مسيرته العلمية، بلغ أعلى مراتب التحصيل الأكاديمي، من الدبلوم إلى الماجستير فالدكتوراه،
ثم دكتوراه الدولة، محققاً إنجازات علمية مرموقة في ميادين الشعر العربي والبلاغة والتاريخ.
وقد أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات التي أصبحت مرجعاً للأدباء والباحثين، مثل:
عائشة الباعونية – حياتها وأدبها، والشعر العربي في العصر المملوكي الثاني، وموسوعة
الهجرات الأندلسية في خمسة مجلدات، ومعجم أسماء الأماكن والمواقع في دولة الإمارات
بثلاثة أجزاء، وواقع الدولة العثمانية في البلاد العربية في جزأين، وكتابه الذي يعكس
جذور انتمائه الفالوجة: أرض الصمود والبطولات.
غير
أن عظمة الكبار لا تقاس فقط بما يكتبونه، بل بما يقدمونه من دعم ومساندة للمبادرات
الوطنية. فقد كان الدكتور محمد عيسى قنديل من أبرز الداعمين لكتاب شخصيات وطنية من
محافظة إربد، مؤمناً بأن توثيق سير الرجال العظماء هو حفاظ على الذاكرة الوطنية، ووفاء
لتضحيات الأجيال. بكلماته الرصينة، ورقيه في التعامل، وحبه لعمل الخير، ظل سنداً لأبناء
وطنه، وداعماً للعلماء والمثقفين والشباب الباحثين عن المعرفة.
ويمتاز
الدكتور قنديل بصفات القيادة الحكيمة، والشخصية الفذة التي تجمع بين الصراحة والشفافية
والتواضع الجمّ. عاش ملتزماً بالعادات العربية الأصيلة، مشاركاً في المناسبات الوطنية
والاجتماعية، مسانداً لإصلاح ذات البين، وبأبواب مفتوحة لكل من قصده. لذلك، أحبه الناس
واعتبروه واحداً من رموز الوفاء والعطاء.
ويُذكر
أن الدكتور محمد قنديل يعيش في مدينة إربد منذ الصغر ومازال يقدم العطاء والإبداع في
ميادين العلم والخير. وكان آخر أعماله الخيرية بناء مسجد الحاجة المرحومة رحمة عبدالسلام،
المعروفة بـ"أم الخير"، على نفقة زوجها الأديب والمفكر الدكتور محمد قنديل
وأبنائها، تخليدًا لذكراها العطرة ومسيرتها الإيمانية المتميزة، وتُقدَّر تكلفة إنشاء
المسجد بنحو 400 ألف دينار أردني.
كما
صدر مؤخراً كتاب جديد للدكتور محمد عيسى قنديل بعنوان: "قانون قتل الإخوة العثماني
(قراءة معاصرة)"، عن دار عالم الكتب الحديث في شهر سبتمبر 2025، ليضيء زاوية شائكة
من تاريخ الدولة العثمانية طالما أثارت جدلاً واسعاً بين المؤرخين والباحثين.
إن
الحديث عن الدكتور محمد عيسى قنديل هو حديث عن رجل آمن بأن الكبار يُقاسون بقدر ما
يعطون، لا بما يملكون. رجل حمل مشعل العلم والأدب، وترك إرثاً من الفكر والإنسانية
سيبقى شاهداً على أن الكبار لا يرحلون، بل يعيشون في ذاكرة الأجيال وأثرهم الخالد.