رحلت الغالية، وما عاد أشوفها ولا أسمع صوتها، رحلت إللّي كانت لآخر أيامها توصّي علي: ديروا بالكم على عاهد، لا تضيعوه، لا تتركوه، لا تزعلوه، كونوا معه ولا تكونوا عليه. لكن أقسم بالله يا يمه لو الدنيا كلها كانت معي ومن حولي سأبقى أحس بمرارة غيابك وفقدك، لأن أحداً مُستحيل أنه يحل مكانك أو يغنيني وجودك
رحلت إبنة المدينة التي تزوجت رجلاً بدوياً، عاشت معه في بيتِ شعر مُتنقل راحلة ومُرتحلة بحثاً عن الرزق والعيش؛ فكانت مثالاً للزوجة الصالحة المُكافحة التي حافظت على بيتها وزوجها ، وبَدت عُكازته وسَنداً له، إذ الناسَ يشهدون لها كيف أنها رهنت سنيناً طويلة من جُهدها ما بين العمل في "المزارع " لتأمين الأجر الزهيد الذي يضمن ثمن الطحين الذي كانت تخبزه فجراً قبل خروجها؛ وبين خدمتها زوجها الذي لَزِمَ فراش المرض في آخر عُمره.
رحلت الأم الفاضلة التي ربّت أولادها وبناتها على الأخلاق الحميدة والصفات الحَسَنة، وزرعت في قلوبهم الخوف من الله ومحبّة الآخرين وحُب الخير للناس. فأنشأتهم تنشأة صالحة في أحلك ظروف الحياة.
رحلت مُربيّة من شاءت الأقدارُ والظروف أن يعيشوا حياتهم دون أمهات، فوجدوها لهُم الأم، وأكثر، ربّتني، وإثنين غيري من قبلي. فأما أنا فتعبها عليّ، كفيل بأن يُرجح كفّت حسناتها في ميزان الحساب.
سبعة وعشرون عامًا وهي قائمة على رعايتي وخدمتي وإعانتي بحُكم إعاقتي، هذا جانب عملي، أما الجانب الشعوري المُتمثّل في الأمومة وحنانها، فلا أتصور أن أُمّاً أحبّت إبنها بمقدار ما كانت محبّتها لي. كُنت أغلى عليها من نفسها وأولادها وبناتها وأخوانها وأخواتها وأي شيء في هذه الحياة. كُنت في الصغر رفيقها إلى أي مكان وعندما كبرت قليلاً، كانت رحمها الله حتى أهلها لا تذهب لزيارتهم إلّا في السنة مرّة وأحياناً أكثر، ذلك لكي لا تتركني أو تبتعد عني.
هي مَن كان لها الفضل في تدريسي وتعليمي. إذ أصرت على أن أدخل المدرسة، وكانت في الصفوف الأولى هي من تأخذني إلى المدرسة في الصباح وتبقى معي حتى ظهيرة العودة.
هي النور الذي أشرقَ حياتي وغيّر مصير ظلمتها، فأبصرت خُطاي دروبها؛ هي الإطمئنان في لحظات الخوف، وهي الذي كان وجودها في حياتي رحمةً لي في واقع القسوة الذي عايشته.
في حضرة رحيلك، كُل شيءٍ أصبح موحِشاً، كل شيءٍ أصبح عندي لا يُساوي شيء...يا سيدة الصحراء وسيدة البذل والعطاء، غيّبك الموت عنّي، لكنك باقية روحاً وصوتاً وملامح..أقسم بِمَن أحياكِ وأماتكِ، أن صورتك لا تُفارقني، وأن ذِكراكِ لا ولن يغيب عنّي لحظة، وأن صوتكِ هو الطاغي على مسامعي بين كل الأصوات، وأنكِ في قلبي حُباً وحبيبة، وأن شوقي لكِ باقٍ ويكّبر إلى أن ألقاك في جنات الفردوس الأعلى من الجنة بإذن الله الرحمن الرحيم المُحيي المُميت.
رحمك الرحمن وجعل مثواك الجنان يا مُهجة الروح ونور العينان، وصبّر قلبي على فراقك.