الكنافة النابلسية ليست مجرد حلوى شرقية تتلذذ بها الأذواق، بل هي هوية وطنية وتراث نابلسي أصيل، تنصهر فيه الحلاوة بالنكهة، كما تنصهر الذاكرة بالحنين. فهذه القطعة الذهبية المقرمشة المحشوة بالجبن النابلسي والمرشوشة بالفستق الحلبي، تحكي قصة مدينةٍ جعلت من الإبداع طقسًا يوميًا ومن الطعم ذاكرةً لا تُنسى.
أصول تمتد عبر القرون
تعود جذور الكنافة إلى العصر الفاطمي في القرن العاشر الميلادي، حيث كانت تُقدَّم على موائد الخلفاء في القاهرة كحلوى رمضانية. ومن هناك، عبرت طرق التجارة إلى بلاد الشام، لتحط رحالها في نابلس خلال العهد العثماني، المدينة التي عرفت كيف تحوّلها من حلوى بسيطة إلى أسطورة مطبخية.
نابلس.. العاصمة الحلوة للكنافة
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأ الحلوانيون النابلسيون في تطوير وصفةٍ خاصة بهم، باستخدام الجبن النابلسي الأبيض غير المملح، والسمن البلدي الخالص، وتقنيات دقيقة في تقطيع العجينة إلى خيوط شعرية رفيعة. ومن هنا، وُلدت الكنافة النابلسية بشكلها المعروف اليوم.
ويُعد محل العربي، الذي تأسس عام 1880 تقريبًا، أول وأقدم محل لتقديم الكنافة في نابلس، تلاه محلات أصبحت أيقونات مثل الأقصى والزعيم والحمصاني، التي ما زالت تحافظ على الوصفة ذاتها جيلاً بعد جيل.
من نابلس إلى العالم
بحلول القرن العشرين، أصبحت نابلس عاصمة الكنافة في المشرق العربي، وانتقلت شهرتها إلى الأردن ولبنان وسوريا، ثم إلى الخليج مع المهاجرين الفلسطينيين. ومع مرور الوقت، ظهرت ابتكارات جديدة مثل الكنافة الناعمة وكنافة القشطة والكنافة المقلوبة، لكنها جميعًا حافظت على جوهر النكهة النابلسية الأصلية.
تحديات الحداثة وصمود الأصالة
رغم ما واجهته من قيودٍ اقتصادية واحتلالٍ ومعوقاتٍ تجارية بعد عام 1967، ورغم انتشار الكنافة الصناعية السريعة، ظلّت الكنافة النابلسية متربعة على عرش الحلوى العربية الأصيلة. أما اليوم، فلا يتجاوز عدد المحلات التقليدية في نابلس العشرة، لكنها تواصل العمل بنفس الشغف القديم، مستخدمة الأدوات الحجرية والنار الهادئة والسمن البلدي الأصيل.
من قلب نابلس إلى المهرجانات العالمية
تحولت الكنافة إلى رمز ثقافي ودبلوماسي، تُقدّم في المهرجانات والسفارات الفلسطينية حول العالم، ويُحتفى بها في مهرجان الكنافة النابلسية الذي يجمع الزوار من كل مكان. كما تُصدّر اليوم إلى أوروبا وأمريكا وكندا، بأشكال حديثة منها الكنافة المجمدة أو الكنافة بنكهات الشوكولاتة والنوتيلا والمانجو.
الكنافة النابلسية ليست مجرد حلوى تُقدَّم ساخنة على طبق، بل قصة حبٍ بين التراث والنكهة، بين الأرض وأهلها.
في كل لقمة منها، تتذوق عبق نابلس القديمة، وسنواتٍ من الصبر والإبداع والاعتزاز بالهوية الفلسطينية التي تأبى الذوبان، إلا في فم العاشقين للحلاوة والتاريخ.