يمثّل نظام إدارة الموارد البشرية الجديد خطوة جريئة نحو إعادة بناء العلاقة بين المؤسسة وموظفيها على أساس "تجربة الموظف" لا مجرد الإجراءات، فالنظام لم يعد ينظر للموارد البشرية كرحلة مهنية كاملة تبدأ من لحظة التعيين وتمتد عبر التطوير والتحفيز والتقييم العادل والمسار الوظيفي الواضح، وفي هذا الإطار، يرفع النظام من قيمة العدالة والشفافية، ويضع الموظف في قلب العملية الإدارية، بوصفه شريكًا في صنع النتائج لا مجرد منفّذ للتعليمات، كما يهدف إلى بناء بيئة عمل مستقرة تحترم الإنسان وتحتضن خبراته، وتمنحه أدوات النمو وفرص التقدّم، بعيدًا عن الارتجال والتجريب الذي أضاع طاقات كثيرة في الماضي. إن هذا التحوّل نحو إدارة ترفع شأن التجربة الإنسانية داخل المؤسسة هو ما يصنع الفارق بين منظومة ترعى الكفاءات وتبنيها، ومنظومة تتخبط في الفوضى وتستنزف طاقاتها، فالنظام الجديد، حين يُطبّق كما يجب، يصبح مظلّة تحمي الموظف وتدعم المؤسسة معًا، وتعيد التوازن إلى معادلة العمل بحيث يكون التطوير مخططًا لا عشوائيًا، والقرارات مدروسة لا ارتجالية، والإنسان قيمة لا مادة للتجربة.
وفي أعماق بعض المؤسسات، تختبئ صورة صادمة لا تُلتقط بالعين المجردة، بل تُشعر بها في كل حركة وتفصيل إداري. مشهد يشبه الظلّ الذي لا يُرى لكنه يلازم المكان، حيث تنكشف ممارسات تنزع من العمل روحه، وتكشف خللًا يتسلّل بصمت إلى بيئة يفترض أن تكون مساحة للإنجاز لا ساحة للتجارب.
هناك، تحت ركام القرارات المستعجلة والتغييرات غير المدروسة، ينبض واقع إداري مرتبك نلمسه في الوجوه، في الخطاب، وفي الطريقة التي يتعامل بها النظام مع الإنسان، فيتحول المشهد إلى علامة واضحة على أن الإدارة فقدت ثباتها، وبدأت تتعامل مع موظفيها كعَيّنات اختبار بدل أن تراهم شركاء في النجاح.؛ مشهد يُختزل فيه الإنسان، بكل ما يملك من عقل وخبرة وانتماء، إلى "عَيّنة اختبار” في مختبر إداري ضائع الاتجاه، يتعامل مع الموظفين كما يتعامل العلماء مع الفئران داخل أقفاص التجارب. إنّه واقع يُفرغ العملية الإدارية من روحها، ويحوّل الكفاءات إلى أدوات قابلة للاستهلاك، بدل أن تكون موارد قابلة للبناء، وفي الزمن الذي يفترض أنه زمن الاحتراف والتخطيط والحوكمة، لا تزال بعض الإدارات تعيش في عقلية "التجريب البشري" تحت مسمى التطوير، فتبدّل المواقع وتدوّر الموظفين وتعيد تشكيل الهياكل بلا رؤية واضحة ولا تقييم، وكأن الإنسان أنبوب اختبار تُلقى فيه التجارب كيفما اتفق، دون احترام لتجربته المهنية أو لكرامته الإنسانية أو لحقه الطبيعي في بيئة عمل مستقرة تحترم خبراته وتثمّن جهده.
لقد أصبح من الشائع أن يستيقظ الموظف على قرار مفاجئ يعيد توزيع الأدوار، أو على تعميم ينسف خطة الأمس ويُفرض دون شرح أو مبرر، فيتحول مكان عمله إلى مساحة مضطربة لا تستند إلى بيانات أو احتياجات حقيقية، بل إلى مزاج المسؤول أو رغبته في إظهار الحركة ولو كانت بلا اتجاه. إنّ هذا النمط من "التغييرات التجريبية” لا يهدف إلى التطوير بقدر ما يهدف إلى إثبات الوجود، وهو نهج خطير لأنّه يُربك العمل ويقتل الدافعية ويزرع الشك في النفوس، فبدل أن تُقاس كفاءة الموظف بأدائه، تُقاس بقدرته على التحمّل، الصمت، وتقبّل القرارات العابرة، وبدل أن تُفهم نقاط قوته وضعفه بطريقة علمية، يُترك في دوامة من المهام غير المتجانسة التي تقطع مسار خبرته وتستنزف طاقته.
إنّ الإنسان ليس مشروعًا تجريبيًا، بل منظومة من الخبرات والعلاقات والانتماءات، وحين تتعامل الإدارة معه كأداة اختبار، فهي لا تختبر الكفاءة بل تدمّرها. فكم من موظف تم نقله إلى موقع لا يناسبه فقط لإشباع رغبة في التغيير! وكم من كفاءة فقدت شغفها لأن الإدارة تعاملها كأنها قطعة قابلة للاستبدال، بدل أن تكرّمها كشريك أساسي في الإنجاز! وكم من خبرة تراكمت على مدار سنوات ثم تآكلت في لحظة بسبب قرار مرتجل لم يُدرس أثره ولم يُراعِ انعكاساته! إن هذا النزيف في الثقة لا يضرّ الموظف فقط، بل ينعكس على المؤسسة بأكملها، فالاستقرار النفسي والمهني ليس رفاهية، بل شرط أساسي للإبداع والإنتاج.
ومع تراكم التجارب الفاشلة، تولد بيئة من الخوف الصامت الذي يعمل كفيروس نفسي ينتشر بين الموظفين بهدوء. يبدأ المبدع بالانسحاب إلى الظل، ويتحوّل المجتهد إلى متردد، ويظهر على السطح من يجيد لعبة البقاء لا لعبة الإنجاز؛ من يفهم كيف ينجو عبر العلاقات والهمسات والتحالفات، لا عبر الأداء والقيمة، ففي بيئة التجريب العشوائي، لا يشعر أحد بالأمان في موقعه، فيرتفع مستوى التوتر الداخلي، وتزداد النزاعات الخفية، وتتحول المكاتب إلى ميادين صراع ناعم تدور فيه حرب باردة: شكاوى غير معلنة، مكائد مكتبية، محاولات لإفشال الآخر خوفًا من أن يكون البديل التالي في تجربة جديدة. إنها لعبة البقاء في مختبر إداري فقد بوصلته، حيث لا ينجو الأجدر، بل الأذكى في التمويه والتحايل.
إن الإدارة التي لا تميّز بين التجريب والتطوير تشبه طبيبًا يُجرّب الدواء على مرضاه واحدًا تلو الآخر ثم يستغرب لماذا يموت البعض! فالتطوير الحقيقي عملية منهجية قائمة على التخطيط الدقيق، وتحديد المعايير، والاستماع للكفاءات، والتقييم الموضوعي للنتائج، بينما التجريب العشوائي عملية فوضوية قائمة على الاجتهاد الشخصي، والانفعال، ومزاج السلطة، والتغيير من أجل التغيير، وبين هاتين العقليتين يضيع الإنسان، وتنطفئ المواهب، وتنهار القيم الأساسية التي تقتات عليها المؤسسات الناجحة: العدالة، والاستحقاق، الانتماء، والثقة.
ولا يتوقف أثر هذا الخلل عند حدود المؤسسة فقط، بل يمتد ليصيب المجتمع نفسه، فالقرار غير المدروس ينعكس مباشرة على جودة الخدمات، وعلى رضا المواطنين، وعلى ثقتهم بالمؤسسات العامة. الموظف الذي يُهدر حقه في العدالة سيحمل هذا الشعور إلى المواطن الذي يقصده، فتنعكس الإحباطات الداخلية على الأداء الخارجي، وتنتقل عدوى التجريب الإداري من جدران المكتب إلى ملامح المجتمع، وهكذا تبدأ سلسلة من النتائج الفاشلة التي لا يدفع ثمنها الموظف وحده، بل المنظومة كاملة.
لا تُقاس الإدارات بعدد التجارب التي أجرتها، بل بعدد الخبرات التي احتضنتها، والعقول التي طوّرتها، والطاقات التي مكّنتها من الإبداع. إن الموظف ليس فأرًا في مختبر، ولا مادة خام للتجارب، بل محور العملية الإدارية وروحها وقيمتها، والمؤسسات التي تستنزف كفاءاتها بدل أن تصونها، تبني لنفسها طريقًا سريعًا نحو التراجع. أما المؤسسات الناجحة، فهي تلك التي تمنح موظفيها بيئة يشعرون فيها بالأمان ليبدعوا، وبالاحترام ليخلصوا، وبالعدالة لينتموا، دون خوف من أن يكونوا التجربة القادمة.