في صباحٍ بارد من نوفمبر 2025، استفاق الأردنيون على خبرٍ أثقل القلوب: رحيل الشيخ جمال حديثة الخريشا، أحد أبرز رجالات الدولة والعشيرة، ورمزٌ من رموز الحكمة والاعتدال والصلابة. رحل الرجل، لكن سيرته بقيت تتردّد في المجالس كما لو أنه ما زال بينهم، يبتسم تلك الابتسامة الهادئة التي كانت تطمئن الناس حتى في أكثر اللحظات صعوبة.
ولد الشيخ جمال عام 1937 في الموقر، في بيتٍ يعرف معنى الرجولة قبل أن تُكتب في الكتب. نشأ بين رجالٍ يتوارثون الشجاعة كما يتوارثون الأرض، فكبر على قيم الكرم والوفاء والنجدة، قبل أن يختار طريقه نحو الجيش العربي، حيث أمضى أكثر من ثلاثين عامًا في خدمة الوطن.
في الجيش، لم يكن مجرّد ضابط يؤدي مهامه، بل قائدًا يُشار إليه بالبنان؛ صارمًا عند الواجب، لينًا عند التعامل مع جنوده. من قيادة الكتيبة إلى اللواء إلى مواقع التفتيش العسكري، ترك بصمة واضحة في كل منصب تولّاه. وفي مطلع الثمانينيات، حمل أمانة الأردن إلى الخارج عندما أصبح ملحقًا عسكريًا في سلطنة عُمان، مؤسسًا أول ملحقية أردنية هناك، وهو إنجاز ما يزال يُذكر له حتى اليوم.
لكن الرجل الذي اعتاد الوقوف على تلال التدريب العسكري، كان يعرف أنّ خدمة الوطن لا تتوقف عند حدود البزة العسكرية. لذلك، انتقل بعد تقاعده إلى العمل البرلماني والسياسي، فدخل مجلس النواب ثم مجلس الأعيان، وتسلّم منصب وزير دولة في فترتين. وخلال تلك السنوات، حمل هموم البادية الأردنية بأصواتها الصادقة ومطالبها الحقيقية، وكان من أوائل من أعطوا صوت الريف والبادية مساحةً تحت قبّة البرلمان.
وعلى الرغم من المناصب، بقي جمال حديثة الخريشا كما هو… الرجل الذي يدخل المجالس بلا ضجيج، ويخرج منها وقد ترك أثرًا لا يُنسى. لم يكن يحب الاستعراض ولا المناكفات، ولم يكن يومًا من الباحثين عن الضوء. الضوء كان يأتيه من تلقاء نفسه.
كان هدوؤه قوة، وحكمته مدرسة، ونبرته المنخفضة أقوى من خطابات المنابر العالية. أحبّه الناس لأنه لم يساوم على مبادئه، ولأنه بقي وفيًّا لوطنه وقيادته وعشيرته، لا تهزه المصالح ولا تزعجه المناصب.
وفي يوم رحيله، اتفقت كل الجهات — العشائرية والرسمية والشعبية — على كلمة واحدة: "فقد الأردن رجلًا بحجم وطن”. لم يكن ذلك مجرد تعبير عاطفي، بل شهادة حقيقية على أثره الممتد في السياسة والمجتمع والعشيرة.
رحل جمال حديثة الخريشا، لكنه خلّف وراءه إرثًا من الرجولة الهادئة، والمواقف الصلبة، والسمعة الطيبة التي تشبه أثر المطر على أرضٍ عطشى. لم يترك للناس ثروة أو مشاريع ضخمة، بل ترك ما هو أثمن: سمعة رجلٍ عاش نظيفًا، ورحل كريمًا، وبقي ذكره جميلًا.
وبين كل ما كتب عنه، سيبقى في ذاكرة الكثيرين ذاك الرجل الذي كان إذا وقف… وقفت معه الهيبة.
وإذا تحدّث… تحدّثت الحكمة.
وإذا رحل… بقيت سيرته حيّة، تُروى كما تُروى حكايات الرجال الكبار.