هل يمكن لجرح قديم أن ينزف من جديد بدماء جديدة؟ ها هو شبح "أوسلو" يعود ليخيّم على مصير الأمة، لكن هذه المرة بوجع مزدوج: دماء فلسطين التي تسيل في غزة تحت وهم السلام، وسيادة الصومال التي تُطعن في القرن الأفريقي تحت وهم الاعتراف. في مشهد يخلط الأوراق ببرودة مذهلة، نرى العالم يدين مجزرة مستمرة بينما تُختزل قضية أمة في مفاوضات متعثرة عن "وقف إطلاق نار". وفي الزاوية المقابلة، نرى اعترافاً من طرف واحد بكيان انفصالي، وكأن رسالة إسرائيل للعالم واضحة: "نحن من يرسم قواعد اللعبة، ونحن من يمنح الشرعية ويسلبها". إنها خديعة القرن تتكرر، حيث تُباع الحقوق التاريخية في سوق الصفقات، وتُشترى المبادئ بأبخس الأثمان.
أوجه التشابه المخيف – أوسلو والقرن الأفريقي
لنقارن بدقة بين المشهدين. عام 1993، تمت مبادلة "الاعتراف" بمنظمة التحرير مقابل اعترافها بإسرائيل، في صفقة جعلت الحقوق التاريخية سلعة قابلة للتفاوض. اليوم، في القرن الأفريقي، تُعاد كتابة السيناريو: تقدم إسرائيل "الاعتراف" لأرض الصومال الانفصالية، لا حباً في استقلالها، بل بحثاً عن موطئ قدم استراتيجي عند باب المندب، ومحاولة لشرعنة منطق "تفتيت الدول". في الحالتين، يتم استخدام "الاعتراف" كأداة جيوسياسية باردة، وليس كتطبيق لمبدأ أخلاقي أو قانوني ثابت. الفارق الوحيد اليوم هو حجم الصفاقة؛ فإسرائيل لم تعد تخفي رغبتها في أن تكون "سيدة اللعبة" التي تمنح وتسلب الشرعية كما تشاء، متحديةً إجماعاً دولياً ودون اكتراث بوحدة دول الجوار.
الوجه الحقيقي لـ "مجلس السلام" وفشل الخطة
بينما يدور الحديث عن "مجلس السلام" و"فجر عهد جديد"، تكشف الوقائع على الأرض الوجه القبيح للخدعة. خطط ترامب المكونة من ٢٠ بنداً تتعثر قبل أن تبدأ، بينما مذبحة غزة مستمرة والشعب يرزح تحت القصف والشتاء القارس. "مجلس السلام" هذا، الذي يفترض به أن يكون وسيطاً نزيهاً، يرأسه الرجل نفسه الذي اعترف بضم الجولان والقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. كيف يمكن لمثل هذا الطرف أن يكون حَكَماً في مصير فلسطين؟ إنه ليس مجلس سلام، بل هو "مجلس لإدارة الاحتلال" بأساليب أكثر تطوراً. الحديث عن "نزع سلاح المقاومة" و"إدارة دولية" تحت الإشراف الأمني الإسرائيلي المباشر "كوغات" ليس سوى محاولة لتحقيق أمن إسرائيل تحت غطاء دولي، وتكريس حالة فلسطينية بلا سيادة ولا أمل.
الاعتراف بأرض الصومال – الخنجر في خاصرة السيادة
خطوة الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال في ديسمبر ٢٠٢٥ ليست حدثاً معزولاً، بل هي ضربة استباقية مدروسة. إنها محاولة لخلق واقع جديد في منطقة القرن الأفريقي الحيوية، وإرسال رسالة واضحة للعالم العربي: "نحن قادرون على العبث بحدودكم وسيادتكم كما نشاء". الرد العربي الموحد، ممثلاً في بيان الـ ٢١ دولة الذي دان الخطوة ووصفها بـ "الخرق السافر"، كان ضرورياً ولكنه غير كاف. إنه يكشف هشاشة النظام الإقليمي الذي تسمح فيه حسابات التطبيع الضيقة بوصول الاحتلال إلى مرحلة الاستهتار بمبدأ "وحدة الأراضي والسيادة"، وهو المبدأ الذي كان خطاً أحمر منذ تأسيس جامعة الدول العربية.
الصمت الدولي والتواطؤ – لماذا يتكرر الخداع؟
يتساءل المرء: لماذا تستطيع إسرائيل أن تقدم على هذه الخطوات الاستفزازية بينما يستمر الصمت الدولي المخزي حيال مجزرة غزة؟ الجواب يكمن في ازدواجية المعايير التي أصبحت سمة النظام العالمي. الاعتراف بالكيان الانفصالي في القرن الأفريقي يخدم مصالح قوى كبرى تبحث عن شركاء جدد في منطقة استراتيجية، تماماً كما خدم "سلام أوسلو" مصالحهم في التسعينيات من خلال تحيين الصراع وليس حله. دور ترامب الذي يرفض الاعتراف بأرض الصومال بينما يغض الطرف عن أفعال حليفه، هو جزء من مسرحية مكتوبة لاستمرار الهيمنة. إنه تواطؤ صامت يسمح بتكرار الخدعة، مع تغيير الأسماء والوجوه، بينما يبقى الشعبان الفلسطيني والصومالي يدفعان الثمن.
سيناريو الدوحة يتكرر: التواطؤ الأمريكي خلف الاعتراف بالصومال
لا يمكن فهم الاعتراف الإسرائيلي المنفرد بأرض الصومال بمعزل عن سجلٍ من التكتيكات المنسقة مع الحليف الأمريكي. فالمشهد يكرر ببرودٍ مسرحيةً سياسيةً شهدنا فصولها من قبل: تقوم إسرائيل بخطوة استفزازية كبرى "كالاعتداء على سيادة الدوحة سابقاً، أو الاعتراف بكيان انفصالي اليوم"، ثم تظهر الإدارة الأمريكية علناً بموقف "متعقل" يتراوح بين التبرؤ من العلم المسبق بالحدث أو رفض حذو نفس الخطوة، كما فعل ترامب بتساؤله المستهجن عن "أرض الصومال". التاريخ يكشف أن هذا "البرود" المرصود هو جزء من المخطط. فالتسريبات والوقائع، كما في عملية الدوحة، تؤكد أن واشنطن غالباً ما تكون على علمٍ بل وهي شريكة في التخطيط لبعض هذه الخطوات. اليوم، الهدف من هذه المسرحية الجديدة في القرن الأفريقي يتجاوز المكاسب الجيوسياسية المباشرة؛ فهي تمهد الطريق لمرحلة خطيرة تُناقش في الكواليس: استغلال الاعتراف لخلق واقع جديد يُستخدم لاحقاً كحلّ "جغرافي" أخير، عبر الدفع بفكرة تهجير الفلسطينيين إلى أراضٍ مثل صوماليلاند. السؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى سيستمر قبول هذه الخدع المُعادة؟.
قراءة المشهد – ماذا بعد الاعتراف؟
ما هي الخطوة التالية في هذه اللعبة الخطيرة؟ الاعتراف بأرض الصومال يفتح باباً يصعب إغلاقه. قد يشجع حركات انفصالية أخرى، ويخلق بؤر توتر جديدة تستهلك طاقة الأمة العربية والإسلامية، ويحول الانتباه عن القضية المركزية لفلسطين. الأهم من ذلك، أنه يعطي إسرائيل ورقة ضغط جديدة في المفاوضات المستقبلية، ويدفع نحو "عرفنة" منطق القوة والابتزاز في العلاقات الدولية. المواجهة الحقيقية تتطلب أكثر من بيان إدانة؛ فهي تتطلب إعادة هندسة الاستراتيجية العربية لمواجهة هذه الحرب المتفردة على السيادة، التي تخوضها إسرائيل على جبهات متعددة: في فلسطين بالدم، وفي الصومال بالاعتراف الانتقائي.
وختامًا: أقولها كلمه وبوضوح إننا، نعيش لحظة "أوسلو الجديدة"، حيث يُعاد بيع الوهم لنا تحت مسميات مختلفة: "مجلس سلام"، "اعتراف دولي"، "فجر جديد". ولكن الدماء في غزة والاعتراف الانتهازي في القرن الأفريقي يكشفان الحقيقة المرة: إنها نفس اللعبة القديمة. الفارق اليوم أن القناع قد سقط تماماً. لن ينجح هذا الخداع مرة أخرى. إن صمود غزة، والبيان العربي الموحد، ووعي الشعوب المتصاعد، كلها تشكل جداراً منيعاً في وجه هذه المهزلة. الرسالة يجب أن تكون واضحة: لن نقبل بأن يكون حقنا في دولة كاملة السيادة موضوع مساومة، ولن نسمح بأن تتحول سيادة أي بلد عربي إلى سلعة في سوق الصفقات. لقد انتهى زمن الخداع. إما عدل كامل، وإما مقاومة لا تتوقف. فالشعوب التي تتعلم من تاريخها، لا تقع في فخ نفس الخديعة مرتين.