مع تقدّم العمر، لا تتغيّر ملامح الجسد فحسب، بل تنضج العقول، وتهدأ الحواس، وتتبدّل طريقة رؤيتنا للحياة. وكما تمرّ العين بمراحلها البيولوجية، يمرّ الوعي الإنساني بمراحله الفكرية والنفسية، فيسير العمر والنضج العقلي جنبًا إلى جنب، كلٌّ منهما يكمّل الآخر.
من المفارقات الجميلة أن الإنسان حين يكبر، غالبًا ما يُصاب بطول النظر؛ فيرى الأشياء البعيدة بوضوح، بينما تصبح التفاصيل القريبة أقل وضوحًا ما لم يستعن بمعين بصري. وهذا التحوّل الجسدي يحمل في طيّاته دلالة رمزية عميقة: فكلما تقدمنا في العمر، اتّسعت رؤيتنا للحياة، وأصبحنا أكثر قدرة على النظر إلى الصورة الكبيرة، وأقل انشغالًا بالتفاصيل الصغيرة.
في مراحل الشباب، نُرهق أنفسنا بتفاهات كثيرة؛ كلمة عابرة، موقف بسيط، أو رأي لا يستحق التوقف عنده. نُدقّق، نُحلّل، ونُضخّم أمورًا لا تضيف إلى حياتنا معنى حقيقيًا. أما مع النضج، فتتغيّر البوصلة. نبدأ بفرز ما يستحق الاهتمام مما لا يستحق، وندرك أن طاقة الإنسان أثمن من أن تُهدر في صراعات صغيرة أو ضجيج فارغ.
النضج لا يعني اللامبالاة، بل يعني الحكمة في الاختيار؛ اختيار المعارك، واختيار العلاقات، واختيار ما يستحق أن نسكنه في قلوبنا وعقولنا. فليس كل ما يُقال يُردّ عليه، وليس كل ما يحدث يستحق أن يترك أثرًا في النفس. ومع الزمن، يصبح السلام الداخلي أولوية، والعمق قيمة، والهدوء مكسبًا لا يُقدّر بثمن.
هكذا، كما تحتاج العين إلى نظارة لترى القريب بوضوح، يحتاج الإنسان الناضج إلى بصيرة ليرى جوهر الأمور. بصيرة تجعله يركّز على المهم، ويتجاوز التافه، ويؤمن أن الحياة أقصر من أن تُعاش في التفاصيل الصغيرة، وأجمل حين تُعاش في المعاني الكبيرة.
في حقيقة الأمر نكتشف أن أجمل ما يمنحه العمر ليس السنوات، بل الحكمة التي تُعلّمنا كيف نرى الحياة بوضوح أكثر، وضجيج أقل.