التقاليد البرلمانية لها مسوغ منطقي في مناورات الكرّ والفرّ عندما تتيح قواعد اللعبة الديمقراطية ذلك، وفي التجارب البرلمانية ثمّة فهم معقول لتسجيل مواقف سياسية في منح أو حجب الثقة عن الحكومات، والحقيقة الموجعة التي لا يليق ذكرها في هذا المقام؛ أن علاقة البرلمان بالحكومات لا يستند إلى تقاليد عريقة، وإنَّما إلى تعايش وتبادل مصالح ومنافع أحياناً، وربمّا رشاوى سياسية في بعض المنعطفات الخطيرة وهو أمر وأن كان مألوفاً في الحياة السياسية الأردنية، إلا أنه قد تراجع مستواه كثيراً في العام المنصرم.
في حكومة الملقي قدمت ذات الجهة مذكرة عدمية لحجب الثقة أفضت -للأسف- إلى تجديد الثقة بحكومة أقصاها الشارع بقسوة بعد أشهر قليلة نتيجة للعناد السياسي، والقصور في الحسابات السياسية والاستناد إلى ردود الفعل في تقدير الموقف، والمؤسف في هذا الأمر ان التجارب في الآثار الناجمة عن تلك المذكرات تصب في خانة الفشل السياسي، والمؤآخذة الشعبية التي لم تنسجم البتة مع النتائج الناجمة عن تجديد الثقة للحكومات، بل أفضت غير ذي مرة إلى إقالة الحكومة بحكمة القيادة المنسجمة مع الإرادة الشعبية.
ما هي الرسالة السياسية التي تريد كتلة الإصلاح النيابية – رغم احترامنا لسلوك الكتلة في وحدة موقفها من كل المواقف والأحداث – ولماذا لا تريد الكتلة أن تعترف أنها تخدم الحكومة بهذا السلوك السياسي الذي يبدو للوهلة الأولى أنه اعتراض على الحكومة؟ ولماذا هذا القفز العدمي على نتائج نعلم جميعاً أننا لا نستطيع لها دفعاً لانها ترتبط بعقود وكلف وخسائر ستحمل الخزينة العامة مئات الملايين إذا انصاعت الحكومة لمطالب كتلة الإصلاح وبعض المناصرين لموقفها؟ ولماذا لا نحترم بالمقابل مصالح الدولة العليا حتى لو كانت بوصلة مشاعرنا تتجه خلاف ذلك؟ وإذا كانت صفقة الغاز كما يقال خسارة كبيرة فهل نفاقم الخسارة بمواقف لا تخدم الخزينة العامة شيئاً.
من حقنا كمواطنين الاعتراض على السلوك السياسي العدمي للبرلمان، ومن حقنا أكثر أن نعبر عن مخاوفنا في دفع مجلس النواب نحو أتون العدمية والحلّ، ومن واجبنا أن نحذر من تأثير السلوك السياسي لدعاة مذكرة حجب الثقة من تجديد ثقة وهمية ذات أبعاد سياسية للحكومة ليست ضرورية في نهاية عمر مجلس النواب. والأخطر في هذا الشأن أن الرسائل السياسية الخارجية لتجديد الثقة بالحكومة على مسألة يتجرعها الشعب على مضض تبعث برسائل خاطئة مفادها أن غالبية الشعب له موقف مؤيد للتعامل مع كيان غاصب لم يحترم العهود والمواثيق والقرارات الدولية، ويمعن في التنكيل بشعب أعزل، وهذا ما يجب على كتلة الإصلاح النيابية قبل غيرها إدراكه بوضوح.
على مجلس النواب عقد جلسة مغلقة يستمع فيها إلى موقف الحكومة من اتفاقية الغاز، وعلى وزيرة الطاقة ووزير المالية أن يضعا نواب الأمة في صورة الكلف الاقتصادية لألغاء أو الاستمرار في بنود الاتفاقية بشكل دقيق، وعلى وزير الخارجية ووزير العدل أن يحددا الكلف السياسية والأساس القانوني لإلغاء الاتفاقية ومخاطر إصدار تشريع يخالف اتفاقية السلام المبرمة، وإذا صدر هذا التشريع هل يسري بأثر رجعي، وأثر ذلك على مصالح الدولة العليا بشفافية وتجرد، واتخاذ موقف مشترك يخدم مصالح الوطن؛ بعيداً عن الموقف الشعبوية التي لا يمكن فهمها أو تفهمها وتقديرها في هكذا ظرف، ومن ثم عدم إعلان أي موقف يضر بمصالح الوطن العليا وأمنه.
آن أوان الانتقال إلى ثقافة إدراك الأولويات الوطنية بوعي، وآن أكثر استخدام الأدوات الدستورية والوسائل النيابية بحكمة وأناة، وبات من الضروري تحديد الخطوط الحمراء لحالات العبث الوطني التي لا يجوز معها قبول الاجتهاد السياسي، بل ربّما أضحى من المؤمل استشراف وقراءة التجربة التونسية في السلوك النيابي للموالاة والمعارضة وتقدير الأولويات الوطنية حتى لا نقع في شرك الإضرار بالوطن الذي اضنانا عشقه والخوف عليه.