الآن أصبح عندي سيرة مَرضية غير مُرضية بعد أن عشتُ عمراً أنتظر أن يصبح عندي بندقية.. الآن لي ملف مليء بالتقارير والتحاليل.. الآن أصبح لي تخطيط قلب وتخطيط جهد.. أصبح لي صور طبقية وملوّنة.. الآن لي نتائج عن زراعة البول والدم.. قياس الحرارة والضغط والتنفّس.. قياس الغازات في الدم.. الآن لي سجل حافل ليس بالحروب وإنما في سحب العينات وتعدد الخزعات والوخزات..
الآن مررت بأكثر من عملية ليست عسكرية وإنما جراحية.. دخلت غرفة العمليات وغرفة الإنعاش.. لبست مريول العمليات الأخضر.. ترى لماذا اللون الأخضر.. ونقلت على سريرٍ متحرك، تماماً كما نشاهد في المسلسلات حيث لا أفق ولا مشهد سوى للممر والسقف المتحرك وبعض العيون الحائرة والمشفقة التي تمرّ سريعاً كالوميض..
الآن مررت بتجربة التخدير حيث يقوم طبيب التخدير بتوجيه سؤال أو سرد حكاية لم أستطع متابعته ولم أتمكن من مجرّد التفكير بالرّد عليه، وحيث الدخول في غفوةٍ جميلةٍ تنسيك الدنيا وأوزارها.. يا الله ما أروع التخدير..
يقولون بأن الطب وعلومه مرّ بمراحل مفصلية ثلاث.. المرحلة الأولى كانت تتمثل في اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية التي غيّرت من مفهوم المرض والالتهابات.. ثم جاء اكتشاف التخدير ليكون الثورة الثانية والعظيمة في تاريخ الطب.. والآن تجيء مرحلة ما تدعى بالخلايا الجذعية والتي إذا نجحت التجارب، فإنها ستكون بمثابة الثورة الطبية الكبرى التي قد تحقق وتوفّر العلاج للكثير من الأمراض والأوبئة المستعصية ومنها أمراض السرطان والإيدز والسحايا والكبد وغيرها..
قلت ما أروع التخدير الذي يجعل من العمليات الجراحية مجرّد نزهةٍ في غياب الذاكرة والألم.. يقولون أنه في الماضي ليس بالبعيد كان يتم ضرب المريض على مؤخرة رأسه لكي يفقد وعيه من أجل إجراء الجراحة له.. تخيّلوا معي إذا حدث نزيف دماغي أو جلطة، بحيث يصدق القول المأثور ( لقد نجحت العملية ومات المريض) أو نجحت الولادة وماتت الأم والمولود ليعيش الأب..
عندما وصلت إلى مكتب الإدخال في مستشفى الجامعة قابلتني بوجهٍ بشوش ( بشرى) التي أنجزت إجراءات الدخول بسرعةٍ ودقةٍ ليزداد توتّري.. حيث وجدت أنني مطالب بالصعود إلى الطابق الثالث، حينها شعرت بجديّة الموقف.. كابرت.. قاومت.. وحاولت التملّص والخلاص من أجل عدم الدخول.. لم يكن ذلك خوفاً من العملية.. إنما هو خشيةً من تكشّف أمراض أخرى خفيّة ومستوطنة تماماً كالخلايا النائمة..
كم سمعت عن أناسٍ دخلوا على أقدامهم وبكامل وعيهم، ليخرجوا على كراسي متحركة أو بصندوقٍ من الأدوية والتقارير والمراجعات.. نعم فنحن كثيراً ما نكابر ونواصل الإنكار إلى أن نصل مرّةً ودفعةً واحدةً للانهيار.. لقد كانت خشيتي من أن تتكشف لديّ أمراض مستترة من خلال التصوير والتحليل..
بقيت أكثر من ثلاث ساعات عند الباب الرئيسي للمستشفى وأنا أشغل نفسي بالاتصالات الهاتفية، وبمراقبة حركة الناس الدؤوبة في مختلف الاتجاهات.. بارتشاف القهوة مع السيجارة.. لكن ذلك كلّه تلاشى عند اقتيادي عنوةً وإلزامي بالصعود إلى غرفتي في المستشفى..
كانت غرفة رقم (302) حيث يوجد فيها ست أسرّة، كان نصيبي أن أحظى بسريرٍ وسط بين مريضين يتوجعان ويصرخان طوال الوقت.. بقيت أكابر مرتدياً ملابسي العادية، لكن فريق التمريض في الطابق استقبلني بوضع إبرة بالوريد لتستخدم في حقن المضادات والمغذيات، ثم طلبوا منّي سحب عيّنة دم وعينة بول، وبعد ذلك تم إنزالي لغرفة الأشعة، وأنا لتلك اللحظة بقيت مرتدياً ملابسي العادية، فيما تفكيري منحصر بأن تسنح الفرصة لي لكي أهرب من هذا الواقع..
عدت إلى الغرفة وارتميت على السرير بهيئتي العادية لغاية تلك اللحظة، ازداد التفكير الجدّي لديّ بالخروج والمغادرة قبل التورّط بمعرفة نتائج الفحوصات والتحاليل وصور الأشعة.. كنت أتأمل مشهد الغرفة بامتعاض وشعور بالغرابة الشديدة.. كانت أول ليلةٍ قاسيةٍ وطويلة ومريرة.. لم أتمكن فيها من النوم نتيجة الهواجس الفكرية الذاتية، والشخير للرفيق المريض المجاور لي، والأنين للرفيق المريض الآخر..
في صباح اليوم التالي كانت الحركة تدبّ في ممرات وغرق الطابق، كان الصحيان الساعة السادسة صباحاً بفحص الضغط والحرارة، وكان الإفطار أمامنا الساعة السابعة صباحاً، وترتيب الغرفة وتنظيفها قبل الساعة الثامنة وهي موعد جولة الأطباء الصباحية، للحقيقة فإن ما يمتاز به مستشفى الجامعة الأردنية بشهادة الكثير ( عملية التشخيص) حيث لا يبخل على المريض في إجراء الفحوصات والتحليلات والقياسات الشاملة المتعاقبة طوال فترة الإقامة في المستشفى، بل يصل الحال إلى شكوى المرضى من كثرة الفحوصات والتي تتواصل طوال ساعات النهار وقسطاً وافراً من ساعات الليل..
يبدو أنني مع صبيحة اليوم الثاني أدركت وقوعي في سير الإجراءات الطبية وحبائل التشخيص المتعاقب، فبدأت أعتاد على المناخ والطقوس في المستشفى، وقمت بخلع ملابسي العادية وارتداء ملابس تناسب الحالة المرضية..
من يصدق أن الإنسان نتاج ما يعتقده.. لم أتصور يوماً أن أدخل حمام غرفة المرضى، لم أتصور أن أتناول طعاماً داخل مستشفى، لم أتصور أن يصبح وقتي قدرياً ورهناً ببرنامج لأشخاص لا علاقة لي بهم أو ببرنامجهم.. لم أتصور أن أرقد على سرير المستشفى مهما كانت الحالة..
الآن وبعد ما جرى.. أستطيع القول بأن الإنسان لديه مقدرة عجيبة وغريبة وفائقة على التكيّف.. نعم لقد نمت حتى الاستغراق على سرير المستشفى.. تناولت طعام المستشفى.. دخلت حمام غرفة المرضى.. باختصار لقد عشت تماماً ما كنت أتحاشى مجرّد التفكير فيه.. بل تصل بك الحال إلى أن تنتظر بمتعةٍ وقت الطعام أو وقت النوم أو الصحيان..
ما أصعب أن تنتهك خصوصياتنا برغبتنا.. هكذا هو الحال في المستشفى، فأنا أصبح مشاعاً للأطباء والممرضين وللطاقم الطبّي والفنّي.. في البداية يمكن أن أتصبب عرقاً من فكرة المشاعية الطبية تلك.. من فكرة انتهاك الخصوصية الذاتية.. لكن وكما قلت بأن الإنسان ابن ما يعتقده، ومع تواصل الانتهاكات المتكررة والغارات الطبية المتعاقبة، ومع تبلوّر الثقة والتيقّن من نبل الطبابة والتمريض، يصبح الانتهاك مطلوباً ومرغوباً فيه من أجل إعادة بناء الوعي والجسم والنفس..
في الليلة التي تسبق إجراء العملية الجراحية لي، حاول ذلك الرجل المريض الذي يرافقني في الغرفة (302) أن يواسيني ويخفف عليّ بعد أن سألني عن عمليتي، فقلت له أنها عملية تفتيت للحصى في الكلية والحالب الأيسر، فقال بأنها عملية سهلة وبسيطة.. إلى هنا الأمر عادي..
مريض يواسي مريض.. لكن عندما سألته عن مرضه أجاب: لقد أجريت لي عملية أسفل العمود الفقري وتبيّن وجود ( كلكولة) في البطن.. كلكولة ماذا تعني طبياً.. سألت ابنه بعد حضوره عن مرض أبيه فقال: تم اكتشاف وجود السرطان عنده في الكلى والمثانة والرئة، وسيخضع للعلاج الكيماوي.. ماذا أقول بعد ذلك؟؟؟
كلكولة.. هذاك المرض.. المرض الخبيث.. ورم.. غدّة.. الله يعافينا منه.. المرض اللي شو اسمه.. هذه هي تعريفات وتسميات نستخدمها تحاشياً لذكر كلمة ( سرطان)..
كلنا مرضى.. هذه حقيقة ينبغي أن لا نغفل عنها.. حين قال لي أحدهم والذي يأخذ جلسات علاجية بالأشعة النووية لورمٍ حميدٍ في الحنجرة: " لقد أمضيت عمراً طويلاً كنت أستميت في عدم معرفة أقرب المقرّبين لي بما أعاني.. لكنني وبعد أن أصبحت أحد مرتادي مركز الأمل للسرطان وشاهدت ما لا عين تحتمله ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر.. أطفال بعمر سنة وسنتين تقتلك نظراتهم وتوسلاتهم غير المجدية وهم يذوون ويتلاشون تحت وقع العلاج الكيماوي وتحت سياط السرطان الذي يفتك بأجسادهم الغضّة.. الآن أعلنها وأدعو الجميع بأن يصرخوا عالياً بأننا كلنا مرضى"
الآن أعلنها وأدعو الجميع بأن يصرخوا عالياً بأننا كلنا مرضى" ..
تماماً كما فعل الشعب عندما خرج في فيلم النوم في العسل يصرخون بصوتٍ واحدٍ ويرددون كلمة واحدة هي ( آه)..
آه ما أنقى الوجع حين يجمعنا.. حيث لا مصلحة ولا منفعة ولا غاية سوى مشاطرة الآخرين المشاعر والحميمية..
هي حكاية ليست متفرّدة ولا تختلف عن حكايا المرضى الآخرين.. لكنها بوح الخاطر عند من يحترف العشق مع الوجع.. من يتقن فن وصناعة التعبير عن العاطفة والوجدان بالكلمة.. هي فقط رصد لمشاعر وهواجس تستحق أن تجعلنا نتأملها لنشعر كم هو الإنسان فقير ومسكين.. وكم هو عظيم عندما يقترب مع الألم والوجع من بداياته الأولى النقيّة.. كم نحن بحاجةٍ للتعاطف أكثر من التقدير.. للمحبة أكثر من الاحترام.. للإنسانية أكثر من العقلانية..