حققت الترامبية- نسبة إلى ترامب- بعض غاياتها من خلال استخدام سياسة الإيحاء والتلويح بالعصا الغليظة، وذلك في غضون الفترة الممتدة ما بين فوز الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية 2024 وصولاً إلى يوم التنصيب المقبل في 20 يناير 2025.. وبالتالي سعي ترامب إلى تخفيف الأعباء التي تسبب بها الديمقراطيون في عهد الرئيس جو بايدن المنتهية رئاسته للولايات المتحدة التي تحجّم دورُها الدولي واستُنْزِفَتْ طاقاتُها على كافة الأصعدة.
وكان أخطر الاتهامات التي وجهها ترامب للديمقراطيين، وتحديداً لحاكم ولاية كليفورنيا غافن نيوسوم، بسوء الإدارة والإهمال إزاء عجزه في إدارة كارثة الحرائق التي التهمت الأخضر واليابس في لوس أنجلس ما تسبب بخسائرَ فادحةٍ تجاوزت أل 150 مليار دولار.. هذا إلى جانب ما ستتكبده الخزينة من تعويضات تأمينية ناجمة عن إلغاء شركات التأمين لكثير من عقود التأمين المكلفة قبل نشوب الحريق ما جعل المتضررين يستنجدون بالحكومة الأمريكية.
وسبق أن اتهم ترامب الديمقراطيين أثناء حملته الانتخابية بتبديد أموال دافعي الضرائب في أوجهِ الدعمِ غيرِ المُبَرَّر للأزماتِ ومواقدِ الحروب المنتشرة فيما وراء المحيطات.
فعلى سبيل المثال، بلغ إجمالي الدعم الأمريكي لأوكرانيا في حربها مع روسيا منذ بدء الحرب 182 مليار دولار (وفق تقرير المفتش العام في وزارة الدفاع الأمريكية).. بالإضافة إلى إجمالي 17.9 مليار دولار قيمة الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة على غزة منذ بداية طوفان الأقصى وفق ما نشرته "تايمز أوف إسرائيل" نقلاً عن تقرير لمشروع تكاليف الحرب التابع لجامعة براون الأميركية.. بالإضافة إلى ما قيمته 4.86 مليار دولار إضافية ذهبت إلى تكاليف الحملة التي تقودها البحرية الأميركية ضد الحوثيين.
فيصبح إجمالي الخسائر التي تكبدتها الخزينة الأمريكية من جرّاء دعم الولايات المتحدة للحروب في العالم (تقريباً) 354.76 مليار دولار (ثلث التريليون).. بسبب سياسة بايدن المتهورة.
ناهيك عن خسائر الاقتصاد الأمريكي من جرّاء الفوائض التجارية البينية مع شركاء أمريكا لصالح كلٍّ من العملاق التجاري الصيني الذي ارتفع إلى 4.4% على أساس سنوي (موقع أرقام).. ومع الحليف الكندي الأقرب، حيث بلغ الفائض التجاري 75%.. علماً بأن كندا ترتبط مع الولايات المتحدة والمكسيك باتفاقية نافتا، التي ساهمت في زيادة التجارة بين الدول الثلاث.
وفوق كل ذلك، تأتي الخسائر المحتملة من جرّاء رفع بنما رسوم "قناة بنما" على السفن ومنها الأمريكية، بحيث أن الرسوم المستحقة على عبور يخت يقلّ طوله عن 65 قدمًا تساوي 1760 دولارًا منذ 1 يناير 2023 ، زد على ذلك دفع مبلغ 75 دولارًا أمريكيًا لفحص سفينة العبور (TVI) ومبلغ 165دولارًا أمريكيًا بدل رسوم الأمن.. وهذه الأرقام في تزايد مستمر.
وقد زاد من تأزيم الموقف، التغلغل الصيني والروسي في دائرة القطب الشمالي بالإضافة إلى الاختراق الصيني الاقتصادي للأمريكيتين الوسطى والجنوبية، وبخاصة المكسيك التي توسعت شراكتها التجارية مع الشركات الصينية مثل "مان واه" وهي واحدة من عشرات الشركات الصينية التي انتقلت إلى المناطق الصناعية في شمال المكسيك في السنوات الأخيرة، وتهدف الصين من ذلك تقريب الإنتاج من السوق الأمريكية. وتوفير الشحن من حيث الوقت والتكاليف، بحيث يعتبر منتجهم النهائي مكسيكيًا بالكامل.. وهذا يعني أن الشركات الصينية يمكنها تجنب الرسوم الجمركية والعقوبات الأمريكية المفروضة على البضائع الصينية وسط الحرب التجارية المستمرة بين البلدين.
ناهيك عن التغلغل الصيني في بنما من خلال إدارة شركة سي كي الصينية لمينائين بنميّيْن يرتبطان بمدخلي قناة بنما جهتي الكاريبي والهادئ.
كل ما ذكرناه آنفاً يفسر تنامي موجات التغيير التي شهدها العالم استجابة لتهديدات الرئيس الأمريكي الجديد دوناند ترامب تحت شعار "أمريكا أولاً ومعادلة صفر حروب".
لذلك قام ترامب ببناء استراتيجيته وفق المعطيات أعلاه؛ لمواجهة هذه المشاكل المتأزمة والتمهيد لمعالجتها من خلال التلويح بالعصا الغليظة، قبل موعد دخوله البيت الأبيض؛ بغية الاقتراب -وفق المتاح- من معادلة "صفر أزمات"، استاداً على ثلاثِ قواعدَ ترامبيةَ أساسيةٍ وهي:
أولاً:- إيقاف الحروب المدعومة من قبل الولايات المتحدة عسكرياً ومالياً والتي تستنزف الخزينة الأمريكية دون تعزيزها بالمقابلِ الماديّ؛ لتندرجَ في سياق الهدر غير المبرر.
مثال ذلك:
- حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وما انبثق عنها من حروب في سياق وحدة الساحات..
حيث أُعْلِنَ يوم الأربعاء الماضي في الدوحة عن وقف إطلاق النار والدخول في مراحل صفقة تبادل أسرى تحت رعايةٍ مصريةٍ قطريةٍ أمريكية، والتي تحققت لعدة أسباب موضوعية أهمها صمود المقاومة -رغم مرور 457 يوم على طوفان الأقصى- وتوريطها الاحتلال في حرب استنزاف طويلة.
إلى جانب الضغط المعلن الذي مارسه ترامب على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي متوعداً الشرق الأوسط بالجحيم ما لم يتم التوقيع على الاتفاق.. وتم ذلك بحضور مبعوثه ستيف ويتكوف الذي طلب من نتنياهو عدم إفساد الصفقة.
ويبدو أن مفاوضاً بارعاً مثل ترامب لا بد أن يحصل على ما يريد بثمن سياسيّ مقابل.. وعليه فيمكن تقدير الأهداف التالية مقابل قبول نتنياهو التوقيع على اتفاق الدوحة على نحو: إنقاذ جيش الاحتلال من حرب استنزاف مهلكة من جرّاء صمود المقاومة.. أيقاف الهجوم الحوثي على السفن المتجهة نحو "إسرائيل" والمرتبطة بإيقاف الحرب على غزة بعد أن أبرمت اتفاقية هدنة مع حزب الله في لبنان.. ومن ثم تحقيق السلام في الشرق الأوسط وفق الرؤية الإبراهيمية وبالتحديد بين "إسرائيل" والسعودية وبالتالي إبعاد الأخيرة عن اتفاقية بريكس لتحاشي تعرض البترودولار لضربة قاسية.
صحيح أن بعض المراقبين ذهبوا إلى أن ترامب وعد نتنياهو -نظير موافقته على الهدنة- بدعمه في ضرب المفاعل النووي الإيراني، لكن هذا الاحتمال غير ممكن في ظل اعتماد الترامبية على مبدأ العقوبات الاقتصادية بعيداً عن الحروب المباشرة التي قد تتسبب بإهدار أموال الخزينة الأمريكية.
- الحرب الروسية الأوكرانية
ما لبثت الحرب الأوكرانية تشكل هاجسَ ترامب الأصعب من منطلق كونها مشروعاً خاسراً دعمته الولايات المتحدة في ظل الحزب الديمقراطي، لذلك اختصر ترامب الحلَّ من خلال ما صرح به الأسبوع الماضي، في أنه سيلتقي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "سريعا جدا" بعد تنصيبه للتباحث بشأن إيقاف الحرب مهما كانت النتائج.
ثانياً:-الحرب التجارية مع الصين ومجموعة بريكس
ما يهم ترامب في مواجهة مجموعة بريكس، حماية الدولار الذي يمثل عمود الاقتصاد الأمريكي.. على اعتبار أن جميع الدول الأعضاء الخمس الأساسية في بريكس هي أيضًا أعضاء في مجموعة العشرين، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لها مجتمعة 28 تريليون دولار أمريكي (أي حوالي 27٪ من الناتج الإجمالي العالمي).
وقد تبنت المجموعة "عملة احتياطي" للبريكس التي تُعَدُّ الأخطر بالنسبة لأمريكا، كون توسيع دائرة اعتمادها سيزعزع مكانة الدولار عالمياً.. وهذا يفسر تهديدات ترامب لكلِّ دولة تستبدل الدولار بعملتها الموحدة.. والتلويح بمضاعفة التعرفة الجمركية على السلع المستوردة من المخالفين للمحاذير الأمريكية في ذلك.
ثالثاً:- تبني سياسة الاستحواذ ووضع اليد كسياسة اقتصادية وقائية تمحورت في ثلاثة اتجاهات:
- الضغط على الدنمارك للتخلي عن جزيرة غرينلاند
وعليه فقد صرّح الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في أكثر من مناسبة على ضرورة تنازل الدنمارك عن جزيرة غرينلاند لصالح أمريكا. مركزاً على موارد الجزيرة الطبيعية مثل النفط، والغاز، والمعادن النادرة، التي تُعد ذات أهمية خاصة، إذ تُستخدم في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتمثل على صعيد استراتيجي منطلقاً لمواجهة التمدد الصيني والروسي في القطب الشمالي.
الرد الدنماركي من جهته جاء مهادناً، وذلك بالسماح للولايات المتحدة باستخدام الجزيرة عسكريًا، وإقامة قواعد عسكرية واسعة رغم وجود واحدة منها على الجزيرة، مع منح الجيش الأمريكي حرية التحرك العسكري علىها.. لكن ترامب ما زال مصراً على موقفه وقد يلجأ إلى بسط السيطرة عسكرياً على الجزيرة أو إخضاعها للاستفتاء الشعبي كونها تتمتع بحكم ذاتي.
- التوعد باحتلال قناة بنما مباشرة
في ديسمبر 2024، انتقد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أسعار المرور عبر قناة بنما التي تفرضها بنما على السفن، باعتبارها باهظة الثمن، وحذر من سيطرة الصين المحتملة على القناة أو نفوذها عليها، وأثار احتمال مطالبة الولايات المتحدة بالعودة الكاملة والفورية وإخضاع القناة للسيادة الأمريكية.
من جهته رفض رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو على الفور هذه التهديدات.
- المطالبة بضم كندا لتصبح الولاية الأمريكية ألواحد والخمسين
ذكر ترامب مؤخراً وفي عدة مناسبات أنه يفكر في استخدام القوة الاقتصادية للسيطرة على كندا حيث سيفرض رسوماً جمركية بنسبة 25 بالمئة على جميع الواردات الكندية ما لم تعزز أوتاوا أمن الحدود.. وقالها صراحة بأنه لا يجوز لدولة تتلقى دعماً أمريكياً ثابتاً لتعزيز استقرارها وأمنها الاقتصادي فيما تحظى بفائض تجاري بنسبة 75% على حساب الاقتصاد الأمريكي.. حيث وجد الحل بضم كندا إلى الولايات المتحدة.
من جهته قال رئيس الوزراء الكندي (المستقيل) جاستن ترودو إن حديث الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن إمكانية ضم كندا مجرد تكتيك يهدف إلى صرف انتباه الناس عن تأثير الرسوم الجمركية التي يخطط لفرضها.
في المحصلة فإن الترامبية باتت تشكل تهديداً لحلفاء أمريكا تحت شعار "أمريكا أولاً" لاستعادة أمجاد بلاد العم سام القائمة على قوة السلاح والاقتصاد.. فهل ينجح المقامر الأشقر في تغيير العالم وقد شغل العالم بسياساته المفاجئة.. أم سيفشل أمام تنامي قوة مجموعة البريكس إذا ما تحولت إلى ملاذ آمن للدول المتضررة من الترامبية.