«إنّا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر». هل الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لرسول الأمّة حريّة تعبير أم استفزاز صريح لشريحة كبيرة في فرنسا من أصول غير فرنسية وللمسلمين عامّة؟ ولأنّنا نتحدث الآن عن حريّة التعبير فإنّني استحضر بالضرورة مقولة وزير الخارجية الفنلندي السابق «تيمو سويني» عندما صرّح في إحدى لقاءاته بأنّه لا يفهم عندما تسمّى السخريّة من السود عنصرية والسخريّة من اليهود معاداة للسامية والسخريّة من النساء اضطهاد المرأة، لكن عندما نسخر من المسلمين فإنّنا نسميها حريّة التعبير. علّنا نستشفّ من هذا الوصف الضعف الذي تعانية شعوب المسلمين في أرجاء العالم، أو على الأقل الدول التي تدّعي تبنيها النظام الإسلامي في الدولة. المسألة هي معايير قوة لا غير، فحتى الماضي القريب كان الغربي يتزيّن ويفاخر بإرتدائه الطربوش التركي، حتى أنّ رئيس بلدية فرانكفورت في بداية ستينيّات القرن الماضي خرج بفرقة موسيقية لإستقبال أول مجموعة دخلت ألمانيا لإعمارها بعد الحرب العالمية الثانية، بينما اليوم لا تخلو النِكات الألمانية من كلمة تركي.
سؤال يجيبه واقع ضعيف للدول العربية، وهم مادة الإسلام. لو عدنا قليلاً للوراء وتمعّنا أحداث الشغب في 2005م التي عمّت جميع المدن الفرنسية لوجدنا أنّ النهج الحكومي الفرنسي، وليس حصراً الرئيسي الحالي «إيمانويل ماكرون» هو التقليل من شأن الجالية المنحدرة من جذور مغاربية وأفريقية ومعها الإسلام هو السبب الرئيس من وراء تلك الأحداث التي شلّت الحياة بشكل كلّي.
فقد دفع التهميش والشعور بالاحتقار والبغض من السياسيين ورجال الشرطة وإهمال تعليمي ووظيفي ونقص النشاطات الاجتماعية والثقافية على مدار أكثر من 30 عام جيل التسعينات الساخط على واقع ليقوم بثورة وصفها وزير الداخلية آنذاك «نيكولا ساركوزي» بوصف وقح وغير حكيم «رعاع الضواحي» ليثير الشارع الفرنسي برمّته، بدل احتواء غضب الشباب الذي تُمارس عليه الدولة سياسة إقصاء ممنّهج تدّل على فشل دمجهم أو تعمّد عدم دمجهم.
إبعاد الملايين من المجتمع وضمّهم في مجمّعات سكنية مكتظّة ومهملة تشبه العشوائيات، بعيدة عن الحياة الفرنسية يجعلها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة لتطيح بنظام حريّات مكذوب هو فشل نظام دولة، لم يستطع منح هذه الشريحة الإحساس بأنّها جزء من هذا الكيان على صورته ومثاله .وهذا ما يفسّر إلى حدّ ما العنف الراهن وجرائم القتل البشعة غير المبرّرة والمرفوضة شكلاً ومضموناً.
أين الحكمة من وراء جزئية بسيطة من حريّة التعبير - لو سلّمنا بهذا النوع من الحريّات - يقوم بها رئيس وزراء دولة لاستفزاز ما يقارب الستة ملايين مسلم؟ حسب دائرة الإحصاء الألمانية، وقد يصل العدد إلى تسعة ملايين، والتفاوت بين الرقمين يعود سببه إلى عدم إمكانية إحصاء أعداد المسلمين في فرنسا إلّا بشكل استقراءات واستطلاعات مختصّة غير رسمية، حيث تحظر قوانين الجنسية الفرنسية ومناهضة التمييز إجراء الدراسات الاستقصائية حول الإنتماء العرقي والديني.
ما هو التصرف الأكثر حكمة في هذه المعادلة؟ هل يجب التصرّف ببرود وإهمال الرسومات المسيئة وقرارت ماكرون لسببين أولهما، أنّ النبي الشريف صلّى الله عليه وسلم منذ صدر رسالته وكلّ المكذبين به يسخرون منه حتى بعض عمومته تجاوزوا لينعتوه بالجنون، ولم تغيّر السخرية إلّا بتزايد أتباعه، والثاني بأنّ هذه الرسومات الساخرة لن تسيء حقيقة لشخص الرسول أو رسالته السماوية؟ أم أنّ التفاعل العربي والإسلامي والذود عن نبي الأمّة ضرورة، وهي بعض من الإيمان به، متمثّلة بتصديق رسالته والإيمان بجميع ما جاء بها، وطاعته في أمره ونهيه ونصرته بالنصيحة ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وإحياء سنته ونشر دعوته ونفي التهمة عنها، وخاصّة تعمّد الحكومة الفرنسية بعد مقتل المعلم تبني الرسوم ونشرها في جميع المدارس.
كلّنا يعي بأنّ أي نوع من النقد لكتاب أو كاتب هو حقيقة سبب شهرته، فلو ضربنا سلمان رشدي مثالاً عندما صدر كتابه «آيات شيطانية» لم يكن يعرفه أحد، وعندما أصدرت إيران حكم الإعدام الغيابي بحقه وصل كتابه إلى لائحة الكتب الأكثر قراءة، وأنا واحد ممّن اقتنى كتابه وقرأه. أحداث 11 أيلول/سيبتمبر التي شهّرت بالمسلمين بشكل غير مسبوق كانت سبباً لدخول أمم في الإسلام أثناء بحثهم عن هذا الدين الذي يحثّ على القتل، حسب وسائل الإعلام الأمريكية آنذاك ولغاية اليوم.
الذي حدث لسلمان رشدي من نقد وشهرة هو ذاته الذي يحدث اليوم للمجلة الفرنسية «شارلي إيبدو»، حيث تشير تقارير صحافية إلى لجوء الأخيرة كلّما تدهورت مبيعاتها وتعرّضها لمشاكل مادية إثارة ضجّة لزيادة التوزيع من خلال استفزاز المسلمين برسوم مسيئة لنبيهم، وهو ما أكدّه مؤسّس ومدير المعهد الفرنسي للدراسات الدولية والاستراتيجية «باسكال بونيفاس» حيث إتّهم المجلّة بأنّها تلجأ لاستفزاز المسلمين من خلال الإساءة للرسول كلّما تدنّت مبيعاتها، بدليل أنّها باعت كل نسخها في عدد عام 2012م البالغة 75 ألف للمرة الأولى جرّاء الرسوم المسيئة، وهي تسير منذ ذلك الحين على ذات النهج. علّها نجحت بزيادة المبيعات أيضاً هذه المرة أكثر بكثير من العام الآنف ذكره، غير أنّ الدولة الآن برمّتها تعاني وستعاني أكثر من تردّي مبيعاتها في الدول الإسلامية، فقد أظهرت صور وتقارير خلو «كافور» المجمع التجاري في قطر من الزبائن، كما هو الحال في الأردن وتونس والمغرب والكويت والسعودية وكثير الدول التي بدأت شعبياً أكثر من القرار الرسمي بمقاطعة المنتجات الفرنسية.
فهل مجلّة شارلي إيبدو هي التي تجرّ وراءها سياسي ركيك متسرّع مثل ماكرون نحو الهاوية ومعه فرنسا؟
لو سلّمنا جدلاّ بأحقيّة فرنسا ممارسة حريّة التعبير التي تتضمّن إساءة النبي العربي، فلماذا تصف فرنسا المقاطعة لمنتجاتها هي حصراً من مجموعات راديكالية؟ لماذا لا تسلّم بالمقابل بأحقيّة الدول الإسلامية ممارسة حقّها بإختيار بضائعها دون إسدال التهم التعصبية لها؟ فرنسا لا تريد تحمّل تبعات حريّة التعبير المكذوبة، فهي ما زالت تظنّ بنفسها المستعّمر لشعوب بائسة مسلوبة الإرادة.
قالت حكماء العرب في الماضي العقل أَفضل مرجُوٍّ، والجهل أَنكى عدُوٍّ، ويقول القانون العشائري ضرورة وجود الجهلاء في العشيرة تماماً كضرورة وجود حكمائها، فالحق الذي لا يستردّه الحكيم بالعقل يُعيدهُ العاقل بالجهل. قرارات فرنسا غير الحكيمة التحريضية المسيئة للنبي من شأنها خلق أشخاص مثل إبراهيم العيساوي - وهو لا ينتمي إلى أين تنظيم إرهابي - أتى من إيطاليا ليقتص لنبيه بطريقة لا تختلف كثيراً عن السياسة الفرنسية في كثير الدول، وهو شاب لم يتم الإثنين وعشرين عام ليقتل ثلاثة أشخاص طعناً في إحدى كنائس مدينة نيس 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020م، وهو صنيع لا محال مرفوض وغير مقبول في أرض ولا سماء، فهل هذه الحادثة البشعة هي تمخُّض عن سياسة فقيرة؟ أم أنّ القادم أسوأ في ظلّ تعصّب ماكرون في موقفه لإستفزاز المسلمين من خلال تصريحاته الأخيرة وتبريرات ركيكة عنها، عبر قناة الجزيرة.
وأخيراً أُنهي بقول الرسول محمد أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام: «ما اكتسب المرءُ مثل عقلٍ يَهدي صاحبهُ إلى هُدى، أَو يردّهُ عَن ردى».