تعود بي الذاكرة الى عام 1975 عندما كنت مقدما لبرنامج " الشرطة في خدمة الشعب " للاذاعة الاردنية.
نقلني ميكرفون الاذاعة الى بلدة الاجفور H4 ( الرويشد ) حالياً، الحدودية التي تبعد عن العاصمة عمان نحو 330 كم، حيث قابلت المسؤولين والمسافرين في المعبر الحدودي والبلدة... . بعد ذلك عزمت الى التوجه الى مخفر الشرطة في قرية الريشة التي تبعد اكثر من 50 كم شمالا عند ملتقى الحدود الاردنية العراقية السورية.
مركز شرطة الاجفور ارسل برقية الى مخفر الريشة اعلمه فيها بتفاصيل رحلتي وعزمي على المبيت في المخفر.
تحركت سيارتي وهي لاندروفر قديم يقودها شرطي اسمه
" رجا ابو غليون " قبل الغروب ... قطعنا مسافة غير قليلة كان الليل دامساً والجو شديد البرودة في فصل الخريف... فجأة شاهدنا دخانا يتصاعد من محرك السيارة... توقفنا... قال السائق لا يوجد ماء في الراديتر... كان البرد شديدا ... كنت ارتجف واسناني تصطك بصوت مسموع... ايقنت في تلك اللحظات اني هالك لا محالة في ليل بهيم ولا احد حولنا يستطيع ان ينقذنا في بطن ذلك الليل المخيف... سكون رهيب مع أمل خِلته مفقودا.
سيارتان قادمتان من بعيد تشعلان اضواءهما وتطفئانها ... قال لي السائق جاءت النجدة... رجال المخفر عرفوا اننا تعرضنا لمشكلة وجاؤوا يبحثون عنا... السائق رد عليهم باشعال الضوء واطفائه ... وصلوا الينا ... شاهدوني ارتجف... تقدَّم احدهم ولفَّني بفروة صوفية ونقلني الى جانبه في السيارة وانطلقنا الى مخفر الريشة.... هناك وجدت نارا وجمراً اشعلها المناوبون ... وضعوني الى جانبها وذهبت في نوم عميق حتى طلوع الشمس.
في الصباح ...الى جانبي كان يجلس الشاويش راجح... امامه على النار ...دلال القهوة وابريق الشاي ... لا يمكن ان انسى هذا الرجل وهذا الاسم " راجح " هو الذي انقذني من قسوة البرد ... لن انسى ابداً بشاشة هذا الرجل وطيب قلبه واحترامه المفرط بالضيف ... قال لي ...قال لي الا ترى الخروف في صندوق الشاحنة تلك ...هذا هو غداؤك اليوم عندنا... شكرته واعتذرت لان مشواري الى عمَّان طويل... قمت باجراء مقابلات مع رجال شرطة ومع " راجح " شاويش المخفر وودعته بحرارة ....باكياً.
انتقلت بعد ذلك الى سرادق الشيخ والوجيه العشائري
" فيصل بن شعلان " الذي يسكن في الريشة واجريت معه لقاء حول تعاون المواطنين مع الشرطة والحفاظ على امن الحدود... دعاني الشيخ فيصل الى تناول الغداء لكنه استجاب باعتذاري نظرا لطول مشواري الى عمان.
هذه رحلة رسخت في ذاكرتي رغم مرور اكثر من خمسة واربعين عاما لانني واجهت فيها مشكلة غير متوقعة، وتعرفت فيها على وفاء اهلي واحبابي في باديتنا الاردنية، وادركت ضرورة الحفاظ على اخلاق اهلها وعاداتهم قبل ان تاتي عليها الحضارة فلا تبقي منها ولا تَذَر.