إن عنوان رقي أي أمة وتحضرها، هو بمقدار استقامتها على ثوابتها، والتزامها بمنهج القانون والنظام، ومحافظتها على المال العام وصونه.
وإن تجذير الثقة بين المواطن وبين حكومته ومؤسساتها ، لا يكون بالشعارات وكثرة الإعلانات، بل يكون بالأقوال المقرونة بالأفعال، والعنوان الأبرز لذلك ، هو سلطان القانون وسطوته على الجميع، وصون المال العام من التعدي عليه، وإرساء ثقافة المحافظة عليه، من خلال التوعية التي تبين حرمته أولا ، ومن خلال التشريعات القانونية المغلظة التي تحميه، وتمنع الاعتداء عليه ثانيا .
تقول الحكومة بأنها تسعى لإستعادة ثقة المواطن بالمؤسسات، ولكن المؤلم هو تكرار نفس الأخطاء والممارسات ، التي ترسخ إنعدام الثقة تماما ، وقد ظهر ذلك جليا، من خلال استطلاع الرأي الذي أجري مؤخراً، والذي اظهر تراجع ثقة العامة بالحكومة ، من خلال ضعف جديتها في مكافحة الفساد.
وأظهر بأن 82 % يعتقدون بأن الحكومة غير جادة وغير حريصة على محاربته ، وأن الوزراء وكبار موظفي الدولة، الفئة الأكثر إسهاما بانتشار الفساد بنسبة 50 %.
بكل أسف هذا واقع نلمسه، ويتكرر بين كل فينة وأخرى، إذ نسمع عن تكرار الإعتداء على المال العام، والتي منها ما أعلن عنه مؤخرا، من تحويل عدة قضايا الى دائرة الإدعاء العام، تخص بعض المسؤولين في وزارة المياه.
وقبل أيام نشرت بعض وسائل الإعلام، إستيضاح ديوان المحاسبة رقم "15"لسنة 2021، والمرسل الى وزير التربية والتعليم، والذي يفيد بوجود كم كبير من المخالفات، والتي سأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:-
اولا - صرف مكافآت وحوافز لخمسة مدراء مديريات وإدارات، بقيمة 100775دينار، تجاوزت قيمة رواتبهم السنوية، وأبينها بالتفصيل :-
الأول منهم، بلغت اجمالي المكافآت التي صرفت له، 29338 دينار، فيما إجمالي راتبه السنوي 15311، والمبلغ المطلوب استرداده 14027 دينار.
الثاني منهم، بلغت إجمالي مكافآته 25158 دينار، فيما اجمالي راتبه السنوي 11683 دينار، والمبلغ المطلوب استرداده 13475 دينار.
الثالث منهم، بلغت إجمالي مكافآته 19895 دينار، فيما إجمالي راتبه السنوي 12788دينار، والمبلغ المطلوب إعادته 7107 دنانير.
الرابع منهم، بلغت إجمالي مكافآته 13175 دينار، فيما إجمالي راتبه السنوي 10630دينار،والمبلغ المطلوب إعادته 2545 دينار.
والخامس منهم ،بلغت إجمالي مكافآته 13209 دنانير، فيما اجمالي راتبه السنوي 11755 دينار، والمبلغ المطلوب إعادته 1454 دينار.
بمعنى أن المبالغ المطلوب إعادتها 38608 دنانير "بس"، والسؤال في ظل عجز الموازنة المتكرر، لماذا صرف المكافآت والحوافز، ألا تكفي رواتبهم؟
ثانيا- ايضا صرف مكافآت وحوافز لشاغلي وظائف أخرى، تجاوزت قيمة الحد المسموح به، والبالغ 50٪ من مجموع رواتبهم السنوية، وأبينها بالتفصيل أيضا :-
الأول منهم، بلغ إجمالي مكافآته 14683 دينار، و50٪ من إجمالي راتبه السنوي 10475 دينار، والمبلغ الواجب استرداده 4208 دنانير.
الثاني منهم، بلغ إجمالي مكافآته 12627 دينار، و50٪من اجمالي الراتب السنوي 10375 دينار، والمبلغ الواجب استرداده 2252 دينار.
ومجموع الزيادة الواجب استردادها 6460 دينار.
ثالثا - '' فقرة6 '' جاء في الاستيضاح، المبالغة في صرف المكافآت وتعدد أنواعها ومسمياتها، لتصبح المكافأة بمثابة سلم رواتب جديد، يضاف الى سلم الرواتب المقرر، حيث بلغ تعدادها ما يقارب " 100" نوع ومسمى، اغلبها دون مصوغ قانوني، أذكر منها ايضا على سبيل المثال لا الحصر مع ذكر الرقم كما ورد في الاستيضاح :-
3- مكافأة التسويات البنكية! 4- مكافأة اللجنة العليا لإنقاذ الطفل! 5 - مكافأة سكن كريم! 6 - مكافأة اللجنة العليا لسكن كريم! 10 - مكافأة تعزيز ثقافة المتسربين!
22 - مكافأة استلام طلبات توظيف الفئة الثالثة!
23- مكافأة صرف مكافأة للفئة الثالثة! 79 - مكافأة تعديل الرواتب! 80- مكافأة تحديد الرواتب! 81- مكافأة الاعتراض على الرواتب! 83 - مكافأة التشكيلات ! 84- مكافأة العلاوات! 85- مكافأة النقل الداخلي! 86 - مكافأة النقل الخارجي! 97 - مكافأة التظلمات! 98 - مكافأة الشكاوى!
كنت حاب أقترح عليهم ايضا مسمى مكافأة فتح الأبواب والنوافذ واغلاقها، وبدل إفطار جماعي، وبدل استعمال الهاتف ووسائل التواصل!
رابعا - '' الفقرة 8''، تم صرف مبلغ 55150 دينار، بدل مسافات للمدراء والموظفين المشاركين في امتحان الثانوية العامة، بالرغم من تقاضيهم مكافأة الإمتحان وعلاوة بدل اقتناء وتنقلات، واستخدامهم مركبات وحافلات الوزارة اثناء تنقلاتهم طيلة فترة الإمتحانات!
خامسا - '' الفقرة 12''، تم صرف مكافأة بقيمة 720 دينار بتاريخ 27-5-2020،لعدد من موظفي إدارة الشؤون المالية، وذلك عن جائزة الملك عبدالله الثاني للياقة البدنية، علما أن الجائزة لم تقام على أرض الواقع، بسبب جائحة كورونا.
والسؤال ايضا ما علاقة إدارة الشؤون المالية، باللياقة البدنية، وهل هم يشاركون بها، او يشرفون على تنفيذها ؟
سادسا - '' فقرة 13''، تم صرف مبلغ"3" ثلاثة ملايين دينار، مكافآت لموظفي الوزارة، نقدا عن طريق معتمدي الصرف وعددهم ثلاثة معتمدين، ودون تحويلها الى البنوك، مما يشكل خطورة في استلام المبلغ ونقله والاحتفاظ به لغايات التسليم، سيما أن أحدى القاصات الخاصة بمعتمدي الصرف قد تعرضت للسرقة في سنوات سابقة!!!!!
السؤال الذي يتكرر، اين أجهزة الرقابة والتدقيق قبل صرف هذه المبالغ؟
اليس ذلك افضل واسلم واحفظ لماء الوجه من صرفها، ثم المطالبة بإعادتها كونها صرفت بغير وجه حق؟
كنت قد كتبت سابقا، بضرورة تعديل قانون العقوبات، وتشديدها وتغليظها بحق المعتدين على المال العام، وهنا أعود لنفس المطلب،والذي يشاركني فيه كل حر وشريف.
والسؤال... الى متى سيتكرر جرم الإعتداء على المال العام؟
ومتى سنمنع تلك التعديات في وقتها وليس بعد وقوعها ؟
ومتى سنولي الأمناء وأهل التقوى والصلاح، على المال العام؟
ومتى سنضع ايدينا على الخلل ونعالجه، ونعدل التشريعات القضائية، التي تجرم التعدي على المال العام؟
ومتى يكون عندنا مسؤولين، هم في ذاتهم واعمالهم قدوة لغيرهم؟
ترى هل يعلم أولئك الذين يعتدون على المال العام، أن هناك من هم بيننا لا يجدون ثمن الخبز والدواء وأجور النقل؟
وهل يعلم هولاء انهم بهذه الافعال المذمومة، يوسعون الرتق على الراقع، الذي يسعى لترميم ما اندثر من الثقة!
قرأت في كتب السير، انه وبعد القادسية، ولَمَّا قَسمَ سعد الغنائِمَ، حصَلَ الفارس على اثني عشر ألفًا، وكانوا كلُّهم فُرسانًا، وبعَثَ سعد أربعةَ أخماس البِساط إلى عُمر، فلمَّا نَظر إليه عمر، قال: "إنَّ قومًا أدوا هذا لأُمَناء"، فقال عَلِي: "إنَّك عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا".
ورَوي أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ، كان ينظرُ في أمور الرعيَّة على ضوء مصباح في بيته، فلمَّا ينتهي ويبدأ النظرَ في أموره الخاصَّة، يطفئ المصباح؛ حتى لا يستعمل المالَ في امره الخاص .
ختاما.. إن المالَ العام تتعلَّق به ذِمَمُ جميع أفراد الأمة، فمَن أخَذَ شيئًا منه - سَرِقة واغتصابًا ونَهبًا - فكأنَّما سَرَق من جميع أفراد الأمة، وهو يَسْرق أو يعتدي على الأصول التي بها حماية المجتمع من المجاعات والأَزَمات والجوائح.
وإن الحفاظ عليه هو واجبٌ شرعي وأخلاقي أكثر منه واجباً قانونيّاً يحاسب عليه القانون.
وقد جاء في شريعتنا الإسلامية، بيان أهميّة الحفاظ على المال العام، وصونه من التلف وجعله أمانةً في ذمة من يقوم عليه، ومن يخون أمانته فله عذاب الآخرة وخزي الدنيا، لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مالِ الله بغير حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامة))، قال ابن حجر في الفتْح : أي يَتَصرَّفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ من أنْ يكون بالقِسمة وبغيرها.
وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((...... ورُبَّ متخوِّض فيما شاءَتْ به نفسُه من مالِ الله ورسوله، ليس له يومَ القيامة إلا النار)) .
قال المباركفوري في تُحفة الأحوذي:"ورُبَّ متخوِّض، أي: رُبَّ متصرِّف في مال الله بما لا يرضاه الله، أي: يتَصَرَّفون في بيت المال، ويستبدون بمال العامة بغير حق.