لقد أثبتت الأيام شراهة النفس البشرية وأنه من الصعب جداً أن تكتفي بما لديها، بل هي دائمة الصراع لتحصيل المزيد ولملئ البطون الجوعى التي لا يمكن أنْ تجدَ شبعاً حقيقيا. ولربما عصرنا الحاضر عصر المادة والدولار مدعاة لأن يأكل الإنسان من غير أن يشبع، فالجوع هو الصفة الدائمة والملازمة للنفس البشرية، فلا قناعة ولا اكتفاء بل مزيدٍ من الشغف نحو المزيد مهما كلف ذلك من ثمن قد يكون على حساب المنطق والقيم والمبادئ والإيمان.
إنَّ مثلَ هذه الحال تُفسد الحياة البشرية ولذتها وجمالها، إذ لا يعود للحياة معنى ولا حتى لجمالياتها أي لون في الحياة، لأن النفس البشرية تبقى دائمة البحث عن اشباع جوع لا قعر لها ولا نهاية له ولا حد له، فالبحث يكون عن المزيد من غير اكتفاء. هذا طبعاً لا يعني أن يجوع الإنسان ويعرى ويعطش لكي يعيش سعيداً هانئاً، فهذه من ضروريات الحياة البشرية التي لا تقوى بدونها، لأنها كلها ضرورية لكي يرتقي الإنسان بنفسه إلى التمتع بنعمة الحياة وجمال العلاقات التي تنشأ عنها والصحبة الحلوة والصداقات التي لا يُعوِّضُ شيئاً عنها، بل هي أجمل ما في الحياة إن كانت مبنية على صدق المشاعر ونقاوة القلوب وحب الحياة.
وفي معجزة إشباع المسيح للجماهير الجائعة، فهي وإن شبعت في وقتها لكنها بقيت جوعى وستموت جوعى لأنها تبحث فقط عن المادة التي لا يمكن أن تسُّدَ رمق جوع النفس الحقيقية. وتبقى المادة ما تركض الجموع لأجله اليوم، إذ تبحث عن مصالحها وعن صاحب المادة فهو السيد وصاحب الكلمة وصاحب اليد العليا، ولا تبحث عن شبع النفس الحقيقي، إذ لا يعني ذلك لها شيئاً وتراه ضرب من الهرج والغباء والسذاجة، ولذلك ستموت وهي جوعى، ومهما ملئت بطونها وجيوبها لكنها حقيقي سوف تبقى فارغة. فما يشبع النفس لا يَكمُن في المادة بل في غذاء الروح. وهذا الغذاء السماوي لا يتأتى إلا من الله وحده من عالم الروح فيشبعُ به النفس البشرية ويرويها ويفتح عيون قلبها لترى روحانية الحياة لا مجرد ماديتها التي لن نأخذ منها معنا شيئاً، ولنتذكر على الدوام قول أيوب النبي: " عرياناً خرجت من بطن أمي عرياناً أعود".