يدرك رئيس وزراء الباكستان الأسبق والرئيس الحالي لحركةِ إنصاف الباكستانية، عمران خان، الذي قضَى في الحكمِ عاميْنَ وسبعةَ أشهر، صعوبةَ الموقفِ وهو يرى مشروعَه التنمويِّ الذي نذرَ نفسَه لإنجاحه في أقصى ما يُتاحُ له من وقت، في قبضةِ خصومِه التقليديين المرتبطين بمصالح أمريكا أو حلفائها، وهم يلوّحون بالمعاول لهدمه والعودة إلى الحاضنة الأمريكية بذريعة التقاط الأنفاس من جديد؛ لاستعادة الثقة مع واشنطن، وهو توجه مُعلن من قبل المعارضة التي ظفر زعيمُها ورجلُ أمريكا والسعودية "شهباز شريف" برئاسة الحكومة بعد تصويت البرلمان الباكستانيِّ على حجب الثقة عن حكومة خان بموجب قرار المحكمة العليا الباكستانية ما أبعدَ الجيش عن التدخل لحلِّ الأزمة كما كان متوقعاً.
حدثَ ذلك عكس ما كان يأمل رئيسُ الوزراء عمران خان وأنصارُه، فقد أتتْ قراراتُ المحكمةِ العليا منسجمةً مع أهدافِ المعارضة نحو تهميش مشروع خان الإصلاحي، وبناء الثقة مع واشنطن.. حيث اقرّت المحكمة بعدم دستورية ما قام به نائبِ رئيس البرلمان قاسم سوري من رفض التصويت على مشروع سحب الثقة من رئيس الوزراء عمران خان، وبالتالي بطلان ما تم اتخاذه من إجراءاتٍ.. وجاءت قراراتُ المحكمةِ العليا على النحو التالي:
- عدم قانونية حلّ البرلمان.
- عدم قانونية الدعوة لإجراءِ انتخابات مبكرة.
- بطلان كل إجراء اتُّخذ من الرئيس الباكستانيِّ بعد ذلك.
- إعادة البرلمان السابق. وهي إشارةٌ إلى (شاہد خاقان عباسی) من حزبِ الرابطةِ السلاميةِ الذي اتهم انتخاباتِ 2019 بالتزوير وبتدخل من الجيش.
- عودة الحكومة السابقة. وقد كان لها ذلك من خلال فوز شهباز شريف من حزب الرابطة الإسلامية قبل يومين.
ودعتِ المحكمةُ العليا أيضاً إلى إعادةِ التصويت على سحب الثقة من رئيس الوزراء عمران خان يوم السبت التاسع من أبريل حيث نجحت المعارضةُ في ذلك (كما أشرنا آنفاً)، وهو البند الذي أخذت المعارضةُ تناورُ من خلاله، بغية إخراجِ خان من المشهد الباكستاني برمته وبالتالي التخلص من اشدِّ خصومِها ضراوةً حتى يتسنى لها قيادة برامجها وفق رؤية المعارضة دون معوقات محتملة.
المعارضة من جهتها كما يبدو قد بيتتِ العزمَ على القطيعةِ نسبياً مع مشروع خان الإصلاحي الداخلي، والخارجي على صعيدين سياسيٍّ واقتصاديّ، كونه أُقيم على قاعدةِ "استقلاليةِ القرار الباكستاني" دون الأخذ بالاعتبار مصالح الحليف الأمريكي التقليديِّ لإسلام اباد، فاستراتيجية المعارضة إزاء مشروع خان سالف الذكر، من شانها أن تمهدَ لاستعادةِ الثقةِ مع الغربِ بزعامةِ أمريكا ومن يدور في فلكها مثل السعودية، وخاصةً أنّ مشروعَ خان الذي قطعت المعارضة عليه الطريق، كان يقومُ على مبدأ استقلاليةِ القرار الباكستاني والتفرغ للبناءِ والخروج من الدور الوظيفيّ للدولة وتحقيق معادلة "صفر مشاكل" مع دول الجوار، ومن ثم التفرغ للبناء خلافاً للأجندة الأمريكية الإقليمية التي تقايضُ دعمَها الماليِّ والعسكريِّ بفرض التبعيةِ على "الدول الوظيفية" والتصرف كحلفاءٍ خاضعينَ لإرادةِ واشنطن في المِنطقة.. وهو دورً حاولَ خان تهميشه والتحرر منه رغم علمه بأن ذلك يُعتبر هدفاً شبهَ مستحيلٍ بسبب رسوخ النفوذِ الأمريكيّ السياسيّ والعسكريّ المتجذّرِ في "الدولة الباكستانية العميقة"، التي خرجت من عباءتِها المعارضةُ، حيث قامت بدورها في إسقاط خان من خلال وضع العراقيل في طريق سياستِهِ وخاصة محاولاته الجادة في اجتثاث الفساد من خلال مكتب المحاسبة المختص بمثلِ هذه القضايا، ما أدخله ذلك في عشِّ الدبابير.
أيضاً رَبْطُ خان الباكستانَ بمشروع طريق الحرير الصيني الذي سيحقق للباكستان عائداتٍ ربحية ضخمة على خزينةِ الدولة، سيكون من شانها لو ُنِفَذْت وفق ما خُطِّطَ له، تحرير البلاد من القيودِ التي تفرضُها المساعداتُ الأمريكيةِ على استقلالية القرار الباكستاني، ويتضمن المشروعُ استئجارَ الصينَ ميناءِ جوادر ذي المياه العميقة، حيث أُعْلِنَ في عام 2015 أن الميناء سيتم تطويره مع المدينة بتكلفة 1.62 مليار دولار؛ بهدف ربطِ شمال باكستان وغرب الصين بميناء المياه العميقة. وسيكون الميناءُ أيضاً موقعاً لِمَرْفِقِ غاز طبيعيٍّ مُسَالٍ عائمٍ سيتمُّ بناءَه كجزءٍ من مشروع خطِّ أنابيبَ الغاز الإيرانيِّ الباكستانيِّ الذي يبلغ 2.5 مليار دولار.. وهو مِفتاحُ السرِّ للعلاقةِ الإيرانية الباكستانية التي تطورتْ في عهد خان الأمر الذي استفزَّ واشنطن.
أما القَشَّةُ التي قسمتْ ظهرَ البعير فقد تجلتْ بتعميق خان العلاقات الباكستانية مع روسيا، وزيارته الأخيرة لبوتين في الكرملين، والتقاط الصور معه والخروج باتفاقياتٍ اقتصاديةٍ تتعلقُ باستيراد الطاقةِ والقمحِ بأسعار تنافسية، في تحدٍ سافر لسياسة أمريكا تجاهَ روسيا في ظلِّ فرضِ عقوباتٍ دوليةٍ تقودُها أمريكا ضدَّ روسيا بسبب احتلالِها لأوكرانيا؛ ما أغضبَ العمُّ سام وجعلهُ يكشرُّ عن أنيابِه.
ناهيكَ عن تبنّي خان لسياسة تَصْفِيِر المشاكِلِ مع دول الجوار بما فيها إيران حيث يتهمُهُ الأمريكيون بتزويدِ طهرانَ بالخِبْراتِ النووية،.
والأمرُ الذي وضعَ العلاقةَ الباكستانيةِ مع السعودية على مِحَكِّ الأزمةِ أيضاً، هو محاولة خان سحبُ البساطِ من تحت اقدام السعودية في العالم الإسلاميِّ ومحاولة تهميش دورِها الفاعلِ وذلك بعقدِ قمةِ كوالالمبور الإسلاميةِ المصغرة، التي انعقدتْ في العاصمةِ الماليزيةِ، أواخر 2019 بمشاركةِ خصومِ السعوديةِ آنذاك (قطر تركيا، إيران، الباكستان، ماليزيا).
فضلاٌ عن مقاومةِ خان لضغوطاتِ الدول الموقعةِ على الاتفاقيةِ الإبراهيمية ورفضِهِ المطلق لها، كونَها فتحتْ كلَّ الأبوابِ التطبيعيةِ أمامَ دولةِ الاحتلال الإسرائيليّ؛ لذلك اتّهمَ خان أمريكا بالضلوعِ في دَعْمِ المعارضةِ باتجاه حَجْبِ الثقة عنه.
أما الآن فقد أصبحتْ مقاليدُ السلطةِ التنفيذيةِ في يدِ حزبِ الرابطة الإسلامية الباكستانيّة، ممثلاً بشهباز شريف الذي صوت له البرلمان بعد حجب الثقة عن خان، ومن المنتظر ان يشكلَ الرئيسُ المنتخبُ حكومةً جديدةً يمكن لها ان تظلَّ في السلطة حتى أغسطس 2023، عندما يحين موعد إجراء الانتخابات العامة.
فالمعارضةُ الباكستانيةِ؛ ليسَ من مصلحتِها في ظلِّ هذه الظروف السيئةِ أن تُفْصِحَ علانيةً عمًا تُبْطِنَهُ بشان سياسة خان التي درج على تنفيذها باتجاه استقلالية القرار السياسي الباكستاني بمعزل عن مصالح الحليف الأمريكي الأكبر ناهيك عن مشاريع خان التنموية العملاقة؛ لأن غايةَ المعارضة بدايةً تتجلى بالعودة التدريجية عن بعضها وإدارة ما يعود بالفائدة على البلاد ليعاد تجييره إليها مثل مشروع طريق الحرير والغاز الإيراني، ومن ثمَّ كسب ثقة الأمريكيين مستقبلاً دون ان يؤثر ذلك سلبياً على مصالح الباكستان الاقتصادية.. وسيتم التركيز على معطيات فوزهم في الانتخابات المقبلة تأسيساً لمرحلة قادمة قد تستوعب مشاريع المعارضة في كافة الصعد، وحتى يتسنّى لها ذلك وجدت المعارضة بان الفرصةَ متاحةً الآن لإخراجِ خصمِها المحنكِ القويِّ من المشهدِ الباكستانيِّ برمته.
فاعتبرت المعارضةُ ما حدثَ انتصاراً للدستور ولباكستان يستحق الاحتفال، وصار من أولوياتها إكمالِ هدفِها الأساسيّ، وهو تعديل لائحةِ الانتخاباتِ من أجل إجراء انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهة مستقبلاً، بحسب تصريحات زعيم المعارضة الباكستانية من حزب "الرابطة الإسلامية"، شهباز شريف، وكذلك تصريحات رئيس حزب "الشعب الباكستاني" بيلاوال بوتو زرداري، ويشمل التعديل التخلص من مشروعين أقرَّهما عمران خان يكون من شانِهِما لو ثُبِّتا تهيئةِ العودة المضمونة لعمران خان إلى الحكم:
أولاً: منحُ المغتربين حقَّ التصويت، وهو ما ترفضه المعارضةُ الباكستانية، وبالرجوع لحديث رئيس الوزراء عمران خان؛ فإن 90% من المغتربين سيصوتونَ لحزبِ "الإنصاف".
ثانياً: التصويت الإلكتروني، وهو ما تعترضُ عليه المعارضة الباكستانية؛ إذ تراهُ وسيلةً يسهلُ اختراقَها ويمكنُ التلاعبَ بنتائجِها.
أضف إلى ذلك، ضرورةُ إلغاءِ مكتبِ المحاسبةِ والمختصِّ بقضايا الفساد الذي الَّبَ كثيرون على خان، وسيفعلُ الشيءَ ذاتَه لو استمَرَّ في ظلِّ الحكومةِ الراهنة، وهو ما لَمَّح له رئيسُ وزراء باكستان الأسبق وعضو حزب "الرابطة الإسلامية" شاهد خاقان عباسي، وصولاً إلى النقطةِ الأهم وهي محاسبة من خرقَ لوائحَ الدستور الباكستاني وتحديداً رئيس الجمهورية الدكتور عارف علوي ورئيس الوزراء عمران خان ونائب رئيس البرلمان قاسم سوري، ووجوب تقديمِهِمْ للمحاكمةِ وفقاُ للمادة السادسةِ من الدستورِ الباكستانيِّ الخاصة بالخيانة العظمى، بهدف إخراج خان من المشهدِ السياسيِّ خوفاً من قلب الموازين في أية انتخاباتٍ قادمة؛ حتى تمضي المعارضةُ من خلال برنامج الحكومةِ الجديدة دون مُعَوِّقات.. فالمشهدُ الباكستاني مقبلٌ على أزماتٍ قد تنجمُ عن محاولةِ شهباز شريف الانقلاب التدريجيِّ على إرثِ عمران خان وسحبِ البساطِ من تحتِ اقدام حزبه "الإنصاف" الذي لم يصحُ بعدْ منْ صدمةِ الهزيمة. 13 أكتوبر 2022