ها هي الشوارع ذات الشوارع ..لا تزيد شارعًا ..كلّها بذات البؤس ..كلها تقف و تنظر إليك و تعاتبك : وينك يا ولد ؟ وأنت تحاول أن تهدِّئ من أنفاسها المخنوقة و تقول لها : أنا هنا ما غبتُ ..كنتِ معي ..كنتِ همّي ..كنتِ المواضيع التي اكتبها بدموعي و ضحكاتي و الألم الذي أبثّه لكل العالم ..! بدونك لم تنجح لي مقالة ..
ها هي البيوت ..القديمة التي تعرفني فتاها الذي تربّى على ملحها و كحلها ..البيوت التي خبّأتني عن مطاردةٍ هنا و قدّمتني في مناظرة هناك ..! البيوت التي كلّما جسستها اقشعر بدني فأنا لا أجسّ طينًا وحجر ؛ بل تاريخًا و حكاياتٍ و والآمًا و انتصاراتٍ و هزائم ..!
أمّا الناس ..فزاد الشيب في مفارقهم ..و الصغار كبروا ..وكثير من الأسنان طارت من مغارات أفواههم ..ومغارات صغيرة أخرى كبرت و تبدّلت فيها أسنان اللبن بأسنان من صلابة ..! وغابت وجوه أعرفها ..وجوه لو كانت هنا لضحكنا و بكينا معًا على ما مرّ من زمن و على أحداثٍ بعينها كنّا أبطالها و كنّا نتكاتف أو نتناكف فيها ..!
أمّا الأحاديث ..لم تختلف كثيرًا ..سوى أننا صرنا نجلس في الصدر و أترابك حولك ؛بعد أن كنّا نجلس في أذيال الأماكن ومرات كثيرة لا يكون لنا مكان للجلوس ..نحن الآن الصفّ الأول ..ولا نقوم لنجلس أحدًا ..بل هناك من يقوم و يُجلس أي قادم جديد..!
حضر الظلم في كل زاويةٍ من حديث..وجاء القهرُ على ساقين لا تتوقفان إلا فوق رؤوس المهمشين و الفقراء ..وحطّ العذاب في كلِّ خرمٍ من وجدانهم ..!!
أيها المنسيون ..أيها التائهون بتفاصيل الوطن ..أيها الصانعون سعادتكم رغم كلّ شيء..لا أحلام لديّ كي أبيعها لكم ..ولا أبيع شيئًا –أصلًا- أنا ..وما أخدعني إن فعلت..أنا العاجز ولا أملك إلا قلمًا و حنجرة ..!