قبل عقدين من الزمن اجتمع في بيت والدي - رحمه الله - مجموعة من الحضور للتدارس في موضوع اجتماعي، تناولتُ (دلة القهوة) من أخي الكبير لكي أقوم بتقديم الضيافة للحضور ، فما كان مني إلا أنْ توجهتُ نحو والدي لكي أقوم بصبّ القهوة له ، فلما اقتربتُ منه ، بدأ يشير لي بعينيه كي أُعطي فنجان الضيافة للحضور ، فتجاهلت نظراته و أصررتُ على البدء بوالدي ، فلما رآني أصرُّ على طلبي ، عضَّ على شفتيه لتنبيهي بأنّ ما أفعله كارثة في نسق منظومة القيم و العرف و العادات .
و قد لاحظ الحضور ما فعله أبي ، فقد تعالت صرخات الحضور بانتقادي بشدة، فقام أخي بأخذ ( دلة القهوة) مني عنوة وضربني على ظهري وقال :" سوّد الله وجهك ، اذهب ولا تجلس معنا.. أخزيتنا يا بارد الوجه " فما كان من البعض إلا إطلاق العبارات التصغيرية و اتهامي بالجهل ، بقولهم : *"هذا ولد يجهل بالعرف و العادات ، و غير مختلط في الناس.. و يحتاج إلى خبرة في الحياة خلوه يسرح مع الغنم حتى لا يخزيكم " .
شعرتُ وقتها بالضيق ، و أنا أسمع انتقاداتهم، و كأنني ارتكبت كبيرة ، و شاهدت والدي و إخوتي في حالة إحراج وغضب حتى أن أحد الحضور قال لي بصريح العبارة :*" لا تصب قهوة للناس، بدك فت خبز ياولد "* لا أخفي عليكم أنني قمت بذلك الفعل احتراماً و تقديراً لوالدي و لأنني أتابع كثيرًا من الحكايات البدوية ، و أجالس كبار السن وكنتُ أسمع منهم أن الشخص يجب أن يبدأ بأبيه عندما يسكب القهوة إلا أن ذلك الأمر لم نعتد عليه في مجتمعنا .
فلما خرج الحضور من الغرفة ، اقترب مني أحد الضيوف ممن حضروا الجلسة، وكانت تظهر عليه الهيبة والوقار ، فقد كنت في الخارج لأعتذر منهم عن فعلي ، فلم اقتربت منهم بادرني هو بالكلام، وأخذني على جنب و همس في أذني وقال :*" لا تعتذر منهم و لا ترد على الحضور ما فعلته هو الصح ،وهذا هو العرف المتعارف عليه عند الأجاويد أنت الصح وهم الجهلاء، لقد أعجبتني بفعلك ، استمر على ذلك ، لا تلتفت لدعوات وإرشاداتهم ، أنت الصح ، ما حبيت أتدخل و أحكي ما فعلته صحيح خوفا من الإحراج من زملائي في الجلسة " .
عن أبي الدرداء قال : سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئتَ فأضع ذلك البابَ أو احفظه.."