أسرد لكم هذه الحادثة من باب الموعظة لنا جميعا كأحياء ولكي نستخلص منها العبر والدروس وتتلخص حتى لا أطيل عليكم في أنني تزوجت قبل (١٨) عاماً في ظل ظروف قاهرة بعد وفاة والدتي- رحمها الله - بشهر بناء على وصيتها و كانت الظروف الإقتصادية صعبة جدا آنذاك ؛ كوني في بداية تعييني في ملاك وزارة التربية والتعليم و أدفع بدل أجرة بيت وقسط شهري بدل أثاث البيت وأقساط أخرى تتعلق بمصروفات البيت و كان زملائي يرأفون لحالي وظروفي الصعبة ، كما كان البعض ينظر لي نظرة الشفقة، فقد كنت اتوارى عن المناسبات الإجتماعية واتعرض للإحراج خاصة عند تقديم الواجب ( النقوط) ، فقد كنت أقدمه بالخفاء حتى لا يشاهد زملائي النقوط القليل مقارنة مع البعض الذين يغدقون زميلهم بالمال الوفير ، كما كنت امتنع عن دعوة الأقارب والمقربين لتناول الطعام في بيتي لقلة ما يتبقى من راتبي .
بعد (٣) سنوات نصحني أحد الأساتذة الافاضل بأن أغير الحال وذلك من أجل زيادة البركة في بيتي و أصبحت أدعو بعض المشايخ الذين كانوا يترددون كثيراً على المسجد المجاور لنا ، فكانوا- رحمهم الله - يلبون دعوتنا ويدعون لنا بالبركة والرزق الكثير ، وأن يرزقنا الله ويعوضنا الله خيرا ، فقد كانوا- رحمهم الله - كثيري العبادة وملازمة المسجد حتى بعد مرضهم ، علاوة على تلاوتهم للقرآن وترديد الأذكار والتسبيح والإستغفار بشكل دائم .
كانوا - رحمهم الله - يدعون لنا أيضا بأن يرزقنا الله بيتا نسكن فيه، و سيارة نقضي حوائجنا فيها وأن يرزق الله زوجتي وظيفة وهذا ما حصل بالفعل لاحقا بعد وفاتهم بفضل الله وبركتهم ودعائهم المستمر .
كنت ألمس في فترة زيارتهم لبيتي سعة بالرزق والبركة رغم أن راتبي قليل جدا آنذاك كان لا يتجاوز (١٨٠) دينارا و كنت مستأجرا لا أملك بيتاً و زوجتي لا تعمل و عليَّ التزامات شهرية كثيرة ، حيث لا يتبقى من الراتب إلا (٥٠) ديناراً ولدي إبن صغير يحتاج لرعاية ومصروف من فوط وحليب وملابس وغيرها من إحتياجات إلا أنني كنت ألمس البركة في زيارتهم و في الأيام التي تعقب تلك الزيارة وكان الأقارب يتعجبون من أين لي عمل الولائم ومشاركة الناس وتقديم النقوط الوافر ، فلو كنت آنذاك إعلاميا لقالوا أن ذلك الخير من عمله الإعلامي و قتها كنت موظفاً وراتبي قليل جدا وزادت عائلتي واصبح لدي ابنتين يحتاجن للمستلزمات من فوط وحليب و غير ذلك ومع ذلك كنت اشعر وكأن راتبي يفوق أضعافا مضاعفة ، بينما هو كان في الأصل لا يتجاوز (٥٠ )دينارا بعد سداد المصاريف .
كما أصبحت أشارك الناس أفراحهم وأقدم النقوط الوافر لهم حتى أن زميلي الذي تزوج آنذاك اتصل بي ليلا ، وقال:" سوف أرجع لك النقوط شكلك مخربط معطيني نقوط كثير، أنت من وين لك تصرف على البيت وعائلتك " . شعرت أنه أصابه الشك تجاهي و من أين قدمت له النقوط وحتى لا ينحرج و يساوره الشكوك تحايلت عليه ،و قلت له :" هذا النقوط من صاحب معروف أعطاني إياه لأعطيك إياه " وقتها اقتنع ودعا لصاحب المال لأنه كان يعلم براتبي وقلته آنذاك رغم أنني في ذلك الوقت كنت انساناً بسيطاً وفقيراً و لم أكن معروفاً لدى الناس ولست إعلامياً ولا كاتباً ولا اتقاضى أي أجور أو رواتب أخرى بإستثناء راتبي الشهري .
ولاحقا بعد( ١٨ ) سنة تغير الحال وأصبحت الظروف صعبة رغم تحسن الدخل و بدأت أسرد للمقربين من المشايخ عن تردي الوضع و قصة زيارة كبار السن لبيتنا قبل زهاء ( ١٥ ) سنة وما تجلبه علينا من بركة آنذاك وانقطاع البركة بعد وفاتهم ، و كانوا يقولون لي :" لعل الذين كان يزوروك آنذاك من أولياء الله الصالحين، بينهم و بين الله اتصال روحاني ، ولعل سرهم المخفي انتقل معهم إلى عالم الآخرة " .
وقال لي أحدهم :" هل استمريت على هذه السنة الطيبة بعد وفاتهم " فأجبته وأنا أطأطأ الرأس " للأسف لا، فقد ماتوا وانتقلوا إلى رحمة الله وانقطعت عن هذه العادة الطيبة بعد وفاتهم " .
واستطرد قائلاً :" هل بقيت البركة في بيتك بعد وفاتهم وانقطاعك عن دعوة كبار السن لبيتك " .
فأجبتهم قائلا : " رغم أنني سكنت بيتاً جديداً واشتريت سيارةً وزوجتي تعينت حديثاً إلا أنني منذ سنوات قليلة اشكوا ليل نهار الطفر ( قلة المال ) رغم أنني أكملت سداد ثمن البيت والسيارة وراتبي صافي و زوجتي تعمل ومع ذلك لا أشارك الناس حالياً مناسباتهم و لا أقدم النقوط ولا حتى أقيم الولائم في البيت للأقارب بسبب ضيق الحال والعوز ، فقد كانت ظروفي زمن زيارة كبار السن آنذاك أفضل من وقتنا الحالي !!!! يا ليتها تعود تلك الأيام " .
فتغير وجه الشيخ وأصبح يتمتم بكلام لم أفهمه وفجأة صرخ في وجهي قائلاً :" قم وأغرب عن وجهي وانقلع يا ناكر المعروف لقد فرطت بدعاء أولياء الله الصالحين الذين كانوا يزورك آنذاك ، لماذا نكرت المعروف وأصبحت ناشف مثل البصل ؟! و لماذا لم تستمر على هذه السنة الطيبة لقد رسبت في الإختبار، يا يوسف " .
وقتها خرجت من عندهم والحسرة تملأ صدري وعيناي تكاد ان تذرف الدمع حتى أن الشيخ الذي وبخني أصبحت اتخفى عنه عندما اواجهه في المسجد أو الشارع أو حتى في المناسبات ، بعدها دعوته لتصليح الأمر فأجابني بإجابة صدمتني قائلا :" أعمل ما شئت لقد فات الفوت ،يا يوسف! ربنا رزقك وأنت فقير الحال عندما كنت تقدم لله وتكرم المشايخ وأنت آنذاك في وضع يرثى له ، لقد أخفقت في الإمتحان فأصبح يرددها حتى بعد تركه.!!! . وقبل سنة توفاه الله .
لهذا علينا التقرب من كبار السن وممن نشعر أنهم من أولياء الله الصالحين نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا، لعل الله يفرج عنا الهموم والأوجاع ببركة دعائهم وأن نستمر على فعل الخير ولا نبخل على الناس لمجرد أن الله تعالى رزقنا الرزق الوفير .