في المناهج، يُقدَّم الوطن كخريطةٍ تحفظها الذاكرة، كنشيدٍ يُردَّد، وكأسماءٍ لمدنٍ ومعارك.
تتعلّمون الأرقام، وتستظهرون التواريخ، وتعدّون المحافظات كما تُعدّ المسافات.
لكن ما لا تقوله المناهج هو أن الوطن ليس مادةً تُدرَّس، بل حياةٌ تُعاش.
ليس فقط ما كُتب في السطور، بل ما استقرّ في القلوب، وما سُفح من عرق، وما طُمر من حكاياتٍ في صدور الآباء.
ولأن المعرفة لا تصنع انتماءً ما لم تُمسّ بالوجدان، أكتب إليكم هذه الكلمات...
علّها تسدّ فجوةً بين ما قيل، وما كان ينبغي أن يُقال.
أيها الشباب...
لا أكتب إليكم من ترف الشعور، ولا من سعة الوقت، بل من ضيق القلب، ومن زوايا الأيام التي مرّت بأثقالها، فتركت في الذاكرة ندبةً، وفي الجبين أثرًا.
ستُقبل عليكم الحياة، لا كما تُقبل الشمس على الجبال في وضح النهار، بل كما يُقبل الغيم المثقل، يطرق الأبواب على مهل، ثم يهطل فجأة.
ستختبركم الأيام، وتُريكم ما لا يُقال في المجالس، وتغرس فيكم التجربة دون استئذان، فتدركوا أن وراء كل فكرةٍ وطنًا، ووراء كل صبرٍ تاريخًا، ووراء كل انحناءةٍ عزّةً مستترة.
سيحاول البعض أن يُقنعكم بأن الانتماء وهم، وأن التاريخ مجرّد حكايات تُروى في كتبٍ مغلقة، وأن من أحبّ تراب الوطن كمن عانق السراب.
لكنني أوصيكم أن تُنصتوا إلى الأرض جيدًا؛ فإنها تتكلم بصمتٍ لا يُسمَعُ إلا من حرثها بيديه، وسقاها من دمعه وعرقه، وترك عليها أثر صوته، وهو يوقظ الحقول بنداء الصباح، ويرتّل أسماء الله على وقع المحراث.
أيها الشباب...
الوطن ليس نشيدًا نردّده كل صباح، ولا لوحة نُرفعها في المسيرات، بل هو إرثٌ ثقيل من كرامة الذين سبقونا.
هو ذاكرة الفقراء الذين لم تُسعفهم الشهادات، لكنهم وقفوا في وجه الريح وقالوا: "نحن هنا".
هو سيرة الرجال الذين لم يخافوا سيفًا، ولم يتراجعوا حين اشتدّ الزمان.
اقرؤوا عن الذين تركوا أسماءهم على تراب الوطن، لا لأنهم كانوا مشاهير، بل لأنهم جسّدوا المواقف.
اقرؤوا عن الذين قاتلوا في اللطرون، وباب الواد، ومعركة الكرامة؛ لا لتبكوا، بل لتفهموا أن الأرض التي رُويت بالدم، لا تُباع بالتنازلات.
لا تُغركم الألقاب؛ فكم من «معالي» لم يعرف ألم العامل، وكم من «دولة» نسي وجه المزارع.
تعلّموا من الذين جاعوا ليشبع الوطن، ومن الذين ماتوا لنبقى نحن.
اجعلوا قلوبكم بوصلتكم، وضمائركم ميزانكم، وأفعالكم تواقيع صادقة على عهد الانتماء.
أما بعد...
فإن ضاقت بكم الحياة، فتذكّروا أن لكم في هذه الأرض تاريخًا لا يُنسى، وأنكم لستم أبناء هذا الزمن وحده، بل أبناء وطنٍ حمله الرجال على أكتافهم، لا على أفواههم.
وإن سألكم الجيل الذي بعدكم يومًا: من أنتم؟
فقولوا له: نحن الذين حملوا الوطن في قلوبهم، قبل أن تحملها الهُويّات.