ثمة أسماء حفرت حضورها في ذاكرة الإعلام بالكلمة المسؤولة، والرأي الجريء، والموقف النبيل. ومن بين هؤلاء يبرز اسم هاني الفرحان الرحاحلة (أبو ناصر)، الذي كان مفكرًا إعلاميًا، ومهندسًا للبرامج التنموية، وصوتًا وطنيًا صادقًا نقل هموم الناس إلى أصحاب القرار، وأسّس نهجًا لا تزال الإذاعة الأردنية تسير عليه حتى اليوم.
ولد هاني الفرحان في مدينة السلط عام 1941 لعائلة أردنية عريقة، ونشأ في بيئة ثقافية واجتماعية محافظة. برز في دراسته وكان من العشرة الأوائل على محافظة البلقاء في امتحان الثانوية العامة في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات، ما أهّله للالتحاق بكلية العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة القاهرة، التي كانت آنذاك منبرًا عربيًا للحوار الفكري والسياسي. هناك، تفتّح وعيه السياسي وتوسعت رؤيته للعالم، وارتبطت شخصيته بقيم التحرر والعدالة والنهضة.
خلال دراسته في القاهرة، توثّقت صداقته بكريمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الدكتورة هدى عبد الناصر، وهي صداقة ظل يعتز بها، وتعكس مكانته الفكرية والإنسانية في ذلك الوسط السياسي والثقافي النخبوي.
عند عودته إلى الأردن، التحق هاني الفرحان بالإذاعة الأردنية، وبرز بسرعة كمعلق سياسي واقتصادي، في زمن كانت الإذاعة الأداة الأهم لتشكيل الوعي العام، وكانت تعليقات المذيعين السياسيين تُعتمد مرآة لرؤية الدولة والشارع معًا. في هذا السياق، لم يكن هاني صوتًا عابرًا، بل أحد الذين ساهموا في صياغة الخطاب السياسي والإعلامي عبر تعليقات واعية وتحليلات دقيقة.
مع بدايات برنامج "البث المباشر" في الإذاعة الأردنية، كان هاني الفرحان أحد فرسانه الأوائل، بصوته الرصين وأسلوبه الحواري الجريء، فشكّل صلة الوصل بين المواطن والمسؤول، بأسئلة دقيقة ومداخلات عفوية موجهة.
لكن أبرز إنجازاته في العمل الإذاعي تمثلت في ابتكار برنامج "اللقاء المفتوح"، حين كان مديرًا لقسم البرامج الاقتصادية والتنموية. كانت الفكرة ثورية وغير مسبوقة: المسؤول يحضر إلى الاستوديو، والمواطنون يتصلون مباشرة لمحاورته، ما وضع الإعلام في موقع الشريك في الرقابة والمساءلة، ورسّخ ثقافة الحوار المباشر الشفاف.
لم تكن برامجه مجرد لقاءات إذاعية، بل أدوات تثقيف وتحفيز ومساءلة، تواكب التحولات الوطنية في زمن "مجلس الإعمار" ولاحقًا "وزارة التخطيط". وعلى مدار سنوات، قاد قسم البرامج الاقتصادية والتنموية في الإذاعة، وكان وراء إعداد وتدريب نخبة من الإعلاميين المتخصصين في الإعلام التنموي، كما كان صاحب أفكار خلاقة في البرامج التي قرّبت مفاهيم التنمية من المواطن البسيط.
وفي سياق اهتمام الدولة بتطوير خطابها الإعلامي، تولّى إدارة مديرية الإعلام التنموي، وهي الجهة التي أوكلت إليها مهمة التدريب الإعلامي المتخصص، سواء داخل الإذاعة والتلفزيون أو في الوزارات والمؤسسات العامة والصحافة، وأشرفت على إنتاج برامج تنموية نوعية.
نظرًا لخبرته العميقة وحنكته الإعلامية، اختير هاني الفرحان مستشارًا إعلاميًا لرئاسة الوزراء، حيث ساهم في صياغة الرسائل الإعلامية الحكومية، وتقديم النصح والتوجيه في لحظات مفصلية من تاريخ الدولة.
كما تبوأ موقع المستشار الإعلامي لمنظمة البرلمان الدولي، وهو دور يعكس الثقة بقدراته على الصعيد الدولي، وانفتاحه على مؤسسات العمل البرلماني العالمي.
لم يكن هاني الفرحان مذيعًا تقليديًا يقرأ من نص، بل كان صاحب فكر وموقف. امتاز بتحليلاته العميقة، وسقفه العالي في الحوار، وقدرته على طرح الأسئلة الصعبة دون مواربة، ما جعله محاورًا مهابًا ومحبوبًا في آنٍ معًا.
كتب في الصحافة المحلية، وساهم في إثراء النقاش العام حول الإعلام ودوره في التنمية، وظل يواكب التحولات الكبرى في المشهد الأردني والعربي بوعيٍ ناقد.
توفي هاني الفرحان بتاريخ 19 آب عام 2023 وبعد وفاته، نعى الديوان الملكي الراحل الكبير، ونقل رئيس الديوان الملكي الهاشمي تعازي جلالة الملك عبد الله الثاني وولي العهد إلى ذويه، في لفتة تعكس مدى احترام الدولة لمكانته.
في كانون اول من عام 2023، كرّمت بلدية السلط مسيرته العطرة بإطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة، تخليدًا لعطائه وتقديرًا لإسهاماته في الإعلام الوطني. كما نال في حياته جائزة "مايكروفون التميز" من جمعية المذيعين الأردنيين وهي هيئة مهنية تأسست لتمثيل مذيعي الإذاعة والتلفزيون في الأردن، والدفاع عن حقوقهم المهنية، وتعزيز دور الإعلام المسؤول في خدمة الوطن. تعمل على تنظيم الفعاليات الإعلامية، وتكريم الرواد، وتصدر بيانات تعبّر عن مواقف المذيعين في القضايا الوطنية،كما تلعب دورًا في تطوير الأداء الإعلامي وتعزيز الخطاب الوطني.
بقيت برامجه تُذكر حتى بعد غيابه، وظل اسمه مرادفًا للجسارة والاحتراف في العمل الإذاعي. ترك بصمة في كل من مرّ من مدرسة الإذاعة الأردنية، وفي كل مستمع سمع صوته يومًا يتحدث عن الوطن، أو يستقبل شكوى من مواطن، أو يقرأ تعليقًا عن اقتصاد أو سياسة.
هاني الفرحان لم يكن صوتًا في الأثير فقط، بل عقلًا في غرفة الأخبار، وفكرًا في الحوار الوطني، ورسالة في العمل التنموي. هو نموذج للمذيع الذي آمن بدور الإعلام في البناء، فكان جزءًا من بناء الدولة، وضميرًا حيًا للإذاعة الأردنية عبر عقود.