بقلم الدكتور علي الفايز
من قاعات مطار "فاسيل ليفسكي" الدولي في صوفيا، وقبيل إقلاع الطائرة عائدة إلى عمّان الحبيبة، أختتم شهرًا كاملًا من الإقامة في هذا البلد الصديق، شهرًا حمل في طياته الكثير من الامتنان والمعرفة والدهشة، ورسّخ في نفسي احترامًا عميقًا لبلغاريا وشعبها الكريم.
أغادر وأنا ممتنّ للشعب البلغاري المضياف، الذي كان في كل محطة مثالًا للرقي، والصدق، والودّ، ما جعل من هذه الرحلة تجربة فريدة على المستويين الإنساني والثقافي. لقد جئت إلى صوفيا منفردًا هذه المرة، لكنني لم أشعر للحظة بأنني وحيد، فدفء هذا البلد وعمقه التاريخي والثقافي كان كفيلًا بأن يجعل من كل يوم تجربة غنية تضيف بعدًا جديدًا لذاكرةٍ عامرة بالذكريات البلغارية منذ عقود.
لقد حرصت خلال هذا الشهر على استثمار الوقت في تعزيز التعاون الثقافي والعلمي بين الأردن وبلغاريا، من خلال زيارات رسمية لعدد من المؤسسات الحكومية والبحثية، ولقاءات بنخبة من الخبراء والأكاديميين. وقد حملت هذه اللقاءات نقاشات معمّقة حول رؤى مشتركة، ومشاريع مستقبلية، وسبل تطوير الأطر المؤسسية للتعاون الأكاديمي والبحثي بين البلدين.
وعلى الصعيد الثقافي، انغمست في الحياة الفكرية والفنية في صوفيا، مدينةٍ تنبض بروح حضارية أصيلة. حضرت فعاليات ومحاضرات رفيعة المستوى، من أبرزها الندوة الحوارية التي قدّمها غبطة بطريرك القدس اللاتيني بييرباتيستا بيتسابالا حول "السلام الذي طال انتظاره"، وذلك بدعوة كريمة من أكاديمية العلوم البلغارية. وقد شكّلت هذه المحاضرة منصة مهمّة لإيصال رؤية موسّعة حول قدسية القدس ومكانتها الروحية لدى أتباع الديانات السماوية.
كما تنقلت بين معارض الفن والمتاحف والمهرجانات الوطنية، وكانت مشاركتي في احتفالات يوم المستنيرين الوطنيين في الأول من نوفمبر محطة ثقافية مميزة تعكس اعتزاز بلغاريا بإرثها النهضوي ورموزها التنويرية. أما المعارض الفنية، فكانت لي زيارة لعدد منها، من بينها أعمال الفنانة البلغارية ديانا ديزير وغيرها من الفنانين الذين يجسدون روح الإبداع البلغاري المعاصر.
اجتماعيًا، منحتني هذه الزيارة فرصة قيمة للقاء أصدقاء قدامى والتعرّف على آخرين جدد، وتبادل الحوارات حول التاريخ والمجتمع والسياسة، إضافة إلى الأمسيات الدافئة التي جمعتني بأفراد من الجالية العربية في صوفيا، والتي أضفت على الرحلة بعدًا إنسانيًا جميلًا.
واليوم، وأنا أختتم هذا الشهر الثري، تتعمّق قناعتي بأن العلاقات الأردنية البلغارية تمتلك من الرصيد الحضاري والإنساني ما يجعلها قابلة للتطور الدائم. لقد لمست عن قرب كيف يمكن للثقافة والعلم أن يشكلا جسرًا يعبر الزمن، ويصنع مساحات جديدة للتفاهم والتعاون.
أغادر صوفيا، لكن الرحلة لا تنتهي هنا؛ فهذه الأيام كانت خطوة جديدة نحو مبادرات ثقافية وعلمية ودبلوماسية أكثر نضجًا وفاعلية، تؤسس لمستقبل واعد يعزز الشراكات بين الأردن وبلغاريا.
أحمل معي من صوفيا تجربة لا تُقدّر بثمن، وأعود إلى عمّان مؤمنًا بأن القادم أجمل، وأن ما بدأناه اليوم سيؤتي ثماره في مشاريع تعود بالنفع على البلدين والشعبين الصديقين.