نيروز الإخبارية : نيروز الاخبارية:
بقلم : جميلة عويصي السرحان
ترتب دفاترها وكتبها على منضدةٍ في طرف من غرفة العائلة ، وقد وضعت لها أمّها شرشفاً أبيضاً مطرزاً بتلك الورود ، قد طرزتها بيديها الحنونتين ، وذاك المنبه ذو الجرس القوي الصوت تعتني به كأنه قد أتى من الفضاء البعيد ،فتضبطه على أوقاتٍ مبكرةٍ لتصحو فتراجع دروسها قبل الفجر ، ولم تعلم بأنها قد ضبطت قبل ذلك عقلها وجسدها وكلّ كيانها على ذلك.
إذ عليها بعد الفجر مساعدة والدتها في إعداد القهوة العربية ، وإعداد الفطور لأبيها وإخوتها فأمّها مشغولة بالخبز ، فهي تملأ ( ذفال ) الخبز وكأنها تعد لوليمةٍ كبيرة ، إذ تضع في ذهنها ضيفاً طارقاً ، أو طفلاً قد جاء مع أمه ،
أو جارةً.... أو... أو...
ثم تقوم فليحة برفع فراش نوم إخوتها ، وترتب البيت مسرعةً ،فلم يتبق وقت ، فتلبس مريولها الأخضر وكأنّها تلبس رداء العلمِ كله ، وتمشط شعرها فتجدّل ظفيرتها بقوةٍ وحماسٍ كبيرين وكأنها ذاهبةٌ لمؤتمرٍ علمي كبير وستلقى فيه أكبر العلماء ، فمع كلّ جدلةٍ تراجع وتذاكر درس التاريخ ، وقصيدة أبا تمام :
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ..
في حدّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ..
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائف..ِ
في مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والرّيَبِ..
فلم يكن همّها الأكبر ماذا سترتدي اليوم حجاباً أو جاكيتاً أو حذاءً ، ولم تعتني بالألوان والأشكال ، بل كان همّها الأكبر كيف ستسمع القصيدة أمام المعلمة بإلقاءٍ مميز ، وكيف ستحل مسألة الرياضيات على اللوح ، وكيف.. وكيف... ؟؟
فلم يلتفت أحدٌ إلى بنت المدرسة في الطريق ، فجميعهن يظفرن جدائلهن ويربطنه بقطعةٍ صغيرة من المطاط ، ويضعن الشبر الأبيض ، إذْ كانت النفوس طيبةً آنذاك وكلّ مشغول في حقله أو أغنامه أو إبله.
تسرع فليحة إلى مدرستها وهي تمسكُ بكتاب العلوم ، فتراجع درسها ، قدماها تعرفان الطريق دونما النظر للأمام ، وحين تصل مدرستها تكون قد أنهت مراجعة درسها فتغلق الكتاب ، وتلقى صويحباتها ( هلّة وفصايل وإنتصار) وكلّ منهن تتحدثُ عن درسٍ أو مسألةٍ رياضية أو معادلةٍ كيميائية ، فلا أحاديث لمسلسلٍ أو فيلمٍ أو أغنيةٍ أو برنامجٍ هابط أو هواتف أو صورٍ أو... أو...
إنْ كان هناك حديثٌ لمسلسلٍ فذاك المسلسل التاريخي ( الظاهر بيبرس) و(قُطز ) والمعركةُ الدائرة بين المسلمين والصليبيين ، وكيف انتصر المسلمين ، وحين ترويها إحداهن وكأنها هي القائد في تلك المعركة فتُظهرُ القوة والجأش الكبيرين.
فترن المعلمة الجرس ( ذاك الجرس النحاسي) إيذاناً ببدء الطابور الصباحي ، فتسرعُ فليحة وصويحباتها وكأنّهن يصطففن للإنطلاق إلى معركةٍ حاسمة ، هنّ أبطالها ، فينشدنَ بحماسٍ قوي وصوتٍ يسمعه الزارع والراعي وصاحب الدكان :
مَوطني الجلالُ والجمالُ والسَّنـاءُ والبهـاءُ في رُبـاك والحيــــــاةُ والنّجـــــــاةُ والهـناءُ والرّجاءُ في هـواك هل أراك سالماً مُنعّـماً وغانماً مُكرّماً هل أراك فـي عُلاك تبلغُ السّماك مَوطني الشبابُ لن يكلَّ همُّهُ أن تستقـلَّ أو يبيد نستقي من الرّدى ولن نكون للعـدى كالعبيد لا نُريد ذُلّنا المؤبّدا وعيشنا المُنكّدا لا نُريد بل نُعيد مجدنا التّليد مَوطني موطني الحسامُ واليراعُ لا الكلامُ والنزاعُ رمزنا مجدُنــــــا وعهدُنــــــــا وواجبٌ إلى الوفا يهزُّنا عِزُّنا غايةٌ تُشرف ورايةٌ تُرفرفُ يا هَنَاك في عُلاك قاهراً عِداك مَوطني..
ثم تنطلق فليحة وصويحباتها الى حصة العلوم ، فتقف وتشرح جزئية من الدرس كما طلبت المعلمة ،والمعلمةُ تنظر إليها بعينين ملؤهما الحبّ والفخر ، وتقول : كونوا مثل فليحة ، لن أزيد شيئاً على ما قالت هي اليوم ( معلمةٌ حق) ( أحسنتي يا إبنتي أحسنتي..)..
كلماتٌ من المعلمة نهضت بهممِ فليحة وأمثالها إلى الأمام والأعالي..
فليحة بعد حين تعطي العلمَ وتبثه في الأرجاء ، فهي تسعد بذلك أيّما سعادة..