كنت في الحادية عشرة من عمري عندما عدنا في أول زيارة لنا إلى الأردن من السعودية حيث كان يعمل أبي، يومها كان الوقت المغرب، كنت ما زلت طفلة وكنت أشعر بالاستغراب من عدد الجنود الذين يحرسون الحدود. استلمنا السيارة التي تم شحنها إلى منطقة القريات لنعبر الحدود إلى الأردن بعد غياب أربع سنوات.
تملكني إحساس بالخوف من منظر الحدود والجيش المسلح وفور دخولنا وبعد التحية اخرج والدي من جيبه بطاقة التقاعد من الجيش الذي كان يحتفظ بها في جيب قميصه جهة القلب وكان يخبرهم بفخر أنه كان احد ضباط سلاح الهندسة في الجيش الأردني، زاد الترحيب حرارة وكأن هؤلاء الجنود اقاربنا المنتظرون عودتنا وقتها نسيت الشعور بالخوف وشعرت بأمان وسعادة وطمأنينة من عاد إلى بيته.
أصر الجنود المناوبون على أن نغادر السيارة ونجلس في استراحة وتم تقديم الشاي وقطع من الكعك العربي لنا كأطفال. وكان أبي يتجاذب معهم أطراف الحديث وكأنه يعرفهم منذ سنوات.
لم يغادر الموقف ذكراتي مطلقاً. الترحيب الدافئ المشاعر الصادقة والمودة غير المشروطة والرقي في التعامل صورة سجلت في صندوق ذكرياتي، كان عنوانها أهلا بك في الأردن حيث يستقبلك جنود الوطن بالبساطة والصدق والعاطفة النقية والترحاب.
هذه الصورة المرسومة بإحساس براءة الطفولة تعني لي الكثير، إبتسامة وترحيب جنود الوطن لها قيمة غالية فهي كانت وتبقى عنوان الحضارة الممتدة في جذور هذا النسيج الأجتماعي الطيب الأعراق. ما أجمل تلك الأيام! وبيقين الواثق أشعر أن تلك البساطة والود لها نفس القيمة الغالية حتى في ظل التغيرات التي حدثت في المجتمعات.
كانت عواطفنا وانفعالاتنا البسيطة الصادقة هي الأساس الذي يساعدنا في إعادة إنتاج أنفسنا على نحو أفضل. كانت مشاعرنا إيجابية نحو الحياة وكانت أبسط المواقف تمنحنا إحساساً طيباً.
ما الذي تغير فينا! لما بات الرضا صعب المنال وغاية لا تدرك، نحن بحاجة إلى أن يحاول كل منا إدراك الذات الذي يشبه بصلة ذات طبقات كثيرة، كلما قشرت طبقة بعد أخرى كان من المحتمل أن تذرف الدموع على الماضي حيث نذكر أحباء غادرونا إلى الحياة الأبدية كلما مروا بصفحة الروح ارتجفت بهجة لإبسط الذكريات معهم.
الأردنيون يعتبرون جنود الوطن الجيش العربي هم الطبقة الأعلى والأغلى في المجتمع بعيداً عن تعقيدات الوضع الاقتصادي وبعيداً عن حديث المال.
ما زلت اتحدث بفخر عظيم عن والدي أنه كان يوماً من جنود سلاح الهندسة في الجيش العربي ورغم أن الحياة منحته بعد التقاعد الفرصة للتجارة ولعمل العديد من الشركات وتكوين رأس مال مرموق. ولكن تبقى المرحلة الأكثر غنى في حياته هي أنه كان من ضباط الجيش الأردني العربي المصطفوي. دام الذكر والذكريات الطيبة وحمى الله الأردن.