منذ ايام وانا اقلب الكتب والدفاتر ,وابحث في مقالات كتبت هنا وهناك , لسيرة رئيس وزراء الاردن الاسبق وصفي التل , فانا لم اعي وبصدق عهده , لكني في كل وهلة وكل حكاية تروى على فم السنابل وبين ثنايا مجد هذا الوطن , تأبى سيرته الا ان تكون الحاضرة , وتروى سيرة وصفي التل لتكون شاهد على عصر اردني نقي شفاف, اشتقنا لرجعته ولو لبرهة, لنرتاح ونلقي بين جنباته ما بنا من هم, وخوف على وطن بني بسواعد رجالات ارخصوا الروح وعرفوا ان تضحياتهم وشهادتهم وموتهم هو طريق لحياة الاخرين .
وصفي تلك القامة الاردنية التي كانت انموذج للوطنية, وللهوية الاردنية الحقة ... وصفي كان الحكاية الاصدق والانبل ... وصفي ما ان نسال الوطن عن رجالاته حتى يشير ببنانه الى وصفي التل وغيره الذين لا يتسع المجال لذكرهم في هذه السطور فهم كثر .
فهل وصفي التل رجل لم تلد الامهات الاردنيات اخ له ؟هل ذهب زمانه الى غير رجعة ؟. الا تحملنا عطر ذكراه الى الغيرة منه ومن زمانه؟ الا يمكن ان يكون اساس ومثال نحتذيه علنا نعيد الامور الى نصابها ؟.
وانا اقلب المقالات وقعت بين يدي كلمة لرئيس الوزراء وصفي التل، عندما كان عيناً في مجلس الأعيان في العام 1969، يناقش فيها الموازنة العامة، وفي ثناياها نقدٌ شرس وشديد للحكومة وسياساتها ومسارها .قرأتها مرات ومرات لا اخفيكم , وتسألت من هذا الرجل الذي يتحدث كذلك وبهذه الجرأة التي نحتاج مثيلها الان؟ ماذا كان بداخله انذاك ؟ وماذا كان يرى وهو يخاطب الحكومة ؟بل والاردن جمعاء بهذه الثقة وبهذه الرجولة ؟ كانت الكلمات قوية وهي تهدر من رجل هو كهي, كانت تلك الوقفة في عقد الستينيات من القرن العشرين الذي ربما لم يشهد وما سبقه من عقود حجم (الانحراف عن المسار الصحيح) اقولها ولا اقول فساد فلو جاز لي ان اقول بان تلك العقود الفائتة كان تشهد فساد , فماذا عساني اسمي وانعت ما نمر به الان؟ كلمات ادعوا كل من يقرأ سطوري هذه ان يتمعن بها وبقوتها وبجرأتها التي نحتاج مثيلها اليوم .
في بداية كلمته الموجهة للحكومة انذاك وكما سبق وذكرت فقد كان من اعيان هذه الامة انذاك حيث يقول رحمة وصفي التل واذكر هنا بعضا مما جاء في كلمته (من هنا جاءت قصص إعطاء التعهدات وتعيين المحاسيب والأنصار بغض النظر عن أهليتهم أو كفاءتهم، ومع هذه القافية جاءت قصص الرز والسكر والجوازات وتعهدات الأسفلت ...) ويستطرد قائلا (من أوجه هذا الهدم وهذا النكران للجميل التشكيك بقيم هذا البلد وبمستقبله والاستهانة بقوانينه وأنظمته، واعتبار ماله وموارده وتقاليده وأصوله ومصادر رزقه مالاً مباحاً كأنما تخص مال إنسان ميت لا عزوة له) .... ( آثار هذه المعالم المؤسفة وتفاصيلها يعرفها القاصي والداني، هذه المعرفة أنتجت لا أبالية عامة وميوعة في أجهزة الدولة وتصاعدت نتيجة لذلك كل عوامل الفساد والانحلال في كل مجال، هذا التصاعد حتى في أيام السلام والدعة يكفي لتقويض مجهود أي دولة فما بالنا ونحن في معركة يفترض أن تتحول الحكومة عندنا إلى مستوى الأنبياء والصحابة بسبب قداسة المصير وقداسة معركة المصير..). ويتابع (على ماذا نصوّت؟ على سياسة الإبداع في تخريب هذا البلد والإبداع بالسير به نحو الهاوية والإبداع بالتشهير به وبأهله ومؤسساته أثناء التبجحات المعروفة لأركان الحكومة في حفلات السراب والطبيخ، في وسعي أن أستطرد إلى ما لا نهاية).
كلمات لا ادري ماذا اعتراني وانا اقرأها ماذا يا وصفي لو كنت اليوم معنا؟ هل كان لديك كل هذا الاستشراف لمستقبل وطنك الذي خانتك ايادي الغدر قبل ان ترى غده وبعد غده ؟ ماذا لو رأيت الى ما وصلنا له من انحدار في مؤسسات كانت يجب ان تظل عصية على الزمن ؟ ماذا لو رأيت حكوماتنا وشخوصها –الرجل المناسب في المكان المناسب – لا للتوريث – لا للوساطة – انتخابات نزيهة – نواب اصحاب فكر نير – لا مال اسود- لا نواب عطاءات- اعيان يصيغون تشريعات وسياسات غاية في القوة – لا لشراء ذمم – وزارات هي امانة في اعناقهم لا مزارع لهم- تخطيط شمولي - ماذا اقول كلماتك ايها الشهيد جعلتني اكبر من داخلي , اصرخ , لكن هل من مجيب؟ , لا احد يسمعني استنجد خوفا على اردني الحبيب واردنيتي الغالية .
وصفي التل ماذا اقول فيك واحمد الله انك وابناء جيلك الاوفياء اصحاب القلوب الكبيرة والنفوس النيرة (التي تربينا في كنفها) , لم تلحقوا بركابنا , وتروا ما عاد يعترينا من فساد ونفاق وهزل واستباح الوطن ومقدراته ارضه وانسانه , فما ذكرته في كلمتك قبل ما يقرب من الاربعين عاما تجسد وبقوة واستشرى بموسساتنا الوطنية وبرجالاتنا الذين اقسموا بالله وهم يضعون اياديهم على كتاب الله (اقسم بالله العظيم ان اكون مخلصا لله وان اقوم بالواجبات الموكولة الى بامانة ) .
في يوم الشهادة لنقف كل في موقعه يعيد حساباته يضع الله والوطن بين عينيه , وفي سويداء قلبه , لنجعل من يوم الشهادة وقفة تأمل نعيد وضع الوطن ومؤسساته وابنائه وكل ما فيه على المسار الصحيح , لنظل نحن الاردنيين المزروعون في الارض النشامى الذين نعشق الورد نعم الا اننا نعشق اردنيتنا وارضنا اكثر .
وصفي انت شهيد الوطن و القامة الاردنية التي تلاقت واخوة من كوكبة شهداء الوطن. في ذكرى استشهادك هذه دعوة لنقف يدا بيد وقلبا بقلب نقف وقفة مراجعة للنفس نستذكر رجالات الوطن الذين كانوا بالفعل رجال همهم الوطن ديدنهم مجده. وصفي شهيد سطر اسمه في لوح المجد بدم الشهادة.عند قبره نقف نقرا فاتحة الكتاب على روحه ننحني نقبّل تراب الدم المجبول بنجيع دمه الطاهر .
ايها الشهيد البطل دعني انهي مقالتي هذه واردد كلماتك وقول على لسانك ( "الذين يعتقدون ان هذا البلد قد انتهى واهمون , والذين يعتقدون ان هذا البلد بلا عزوة واهمون كذلك, والذين يتصرفون بما يخص هذا البلد كانه (جورعة) مال داشر واهمون كذلك ).