... في ضوء إعدادي وتأليفي لـ / كتاب نزاع ناغورنو كاراباخ والقانون الدولي/ وكتاب العلاقات الأردنية الأذربيجانية... واطلاعي الواسع فيما يتعَّلق بالشأن الأذربيجاني خلال الـ 10 سنوات الماضية سأقدم تحليلاً للوضع الراهن بعد الإشتباكات العنيفة التي دارت رحاها خلال الأسابيع الماضية وما نتج عن ذلك من مساعي سلمية لحل الأزمة من أطراف عديدة.
بعد ظهور النزاع على إقليم ناغورنو كاراباخ وبعد احتلال أرمينيا لـ 20% من أراضي أذربيجان منذ 30 عاماً... إضافةً لحلم أرمينيا بإقامة (أرمينيا الكبرى) أي المناطق الواقعة ما بين بحر قزوين والبحر الأسود والبحر المتوسط... مُنذ البداية وافقت أذربيجان وأصرّت على الحل السلمي للأزمة وقد وافقت على القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة وعددها 4 والتي تؤكد على أن إقليم كاراباخ أراض أذربيجانية وتطالب أرمينيا بالإنسحاب من الأراضي الأذربيجانية، وكذلك فإن أذربيجان تعاونت بقوة مع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (مجموعة مينسك) والتي تترأسها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والتي أصدرت قرارات ومساع لصالح أذربيجان لكن أرمينيا أظهرت تعنُّتاً وعدم تعاون مع هذه القرارات...
... لقد ملَّت أذربيجان الوعود المُتتالية لإيجاد حل سلمي منذ 30 عاماً من المنظمات الدولية أو الدول المجاورة لأن كل هذه القرارات لم توافق عليها أرمينيا... وهذه القرارات عبارة عن حبر على ورق – دون تنفيذ – أو هي من أجل التنفيس والإستهلاك المحلي وإطالة الأزمة وكسب الوقت دون أي ضغط فعلي...
كما أن أرمينيا باحتلالها 20% من مساحة أذربيجان وبسبب تهجيرها لحوالي مليون أذربيجاني إلى داخل أذربيجان قد خلقت مُشكلة جديدة... لأن الأذربيجانيين يُطالبون باستعادة أراضيهم المحتلة... وكذلك فإن المليون مُهاجر يُطالبون بالعودة إلى أراضيهم... وكذلك هناك مُطالبة وإدانات لأرمينيا بُمعاقبتها دولياً بعد جرائم الإبادة الجماعية والمجازر التي ارتكبتها ومنها مذبحة خوجالي الشنيعة...
الوضع الآن على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي يختلف عما كان في الماضي – قبل 30 سنة – الآن أذربيجان أقوى بكثير عسكرياً واقتصادياً وهي دولة نفطية غنية بالبترول والغاز وتتمتع باحترام دولي بسبب موقفها الثابت المعتدل الذي أصرّ طيلة الفترة الماضية على احترام قرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية والإصرار على الحل السلمي ليس من منطق ضعف بل لأن أذربيجان دولة مُسالمة وحضارية وتحترم الشرعية الدولية.
كما أن الجيش الأذربيجاني الآن يتمتع بالتفوق العددي والتفوُّق من حيث التسليح... وعندما اندلعت المواجهات العسكرية خلال الأسابيع الأخيرة كان هناك العديد من المفاجآت التي أظهرها الجيش الأذربيجاني ومنه العدد الكبير من الطائرات المسيّرة من طراز – البيرقدار – ومصدرها تركيا والأسلحة المتطورة التي يمتلكها الجيش الأذربيجاني وإرادة قتالية ومعنويات عالية وإيمان راسخ وإصرار على استعادة الأراضي المحتلة مما أدّى إلى تحريك الأزمة الراكدة وتسابق محموم من الجهات الإقليمية والدولية والدول المجاورة لطرح حلول سلمية للأزمة.
كما كان من ضمن المفاجآت أن الموقف الروسي وهو الموقف الحاسم بالأزمة كان مُحايداً نوعاً ما فقد طلبت روسيا من الطرفين الإجتماع في موسكو في مبادرة سلمية جديدة... وفعلاً حضر وزير خارجية أذربيجان وكذلك وزير خارجية أرمينيا الإجتماع وتم الإعلان عن هدنة إنسانية من أجل تبادل الأسرى ونقل جثث الضحايا من كلا الجانبين مع اقتراح روسي لنشر قوات ومراقبين عسكريين من روسيا على الحدود بين الطرفين.
أعتقد بأن أذربيجان وهي المنتصرة حتى الآن تخشى من أن هذا الكلام المعسول وأن هذه المساعي السلمية والهدنة هي خديعة من أجل أن يلتقط الطرف الآخر أنفاسه وليُعيد تنظيم نفسه وبناء قواته المدمرة دون أن تحصل أذربيجان على نتائج محسوسة على الأرض... بحيث تنتهي هذه التضحيات الكبيرة والخسائر والضحايا إلى هدف واحد وهو وقف إطلاق النار دون تحقيق إنسحاب أرمينيا من أراضي أذربيجان المحتلة... أي أن النتيجة ستكون (بلا غالب ولا مغلوب) وهذا ما ترفضه أذربيجان قيادةً وشعباً وجيشاً لأن الجبهة الداخلية في أذربيجان مع الإستمرار في القتال حتى يتم تحقيق المطالب المشروعة لأذربيجان وقد عبر الشعب عن ذلك في مظاهرات تأييد في العاصمة باكو وبعض المدن الأذربيجانية.
أعتقد بأن شعبية الرئيس إلهام حيدر علييف هي الآن في القمة داخل أذربيجان وأصبح بطلاً ومناضلاً بنظر الشعب الأذربيجاني وقد أعاد الكرامة وحقق النصر لأذربيجان لا سيما بعد الإنتصارات العسكرية واستعادة أراضي ومدن وقرى أذربيجانية كانت محتلة من أرمينيا.
أذربيجان سنة 2020م هي ليست أذربيجان قبل 30 عاماً فهي أقوى عسكرياً واقتصادياً وتحظى بتعاطف إقليمي ودولي لأن قضيتها عادلة... وأكبر دليل على عدالة قضيتها هو أنها وافقت على قرارات الأمم المتحدة بشأن الأراضي المتنازع عليها... بينما الطرف الآخر وهو أرمينيا مع الدويلة العميلة داخل إقليم ناغورنو كاراباخ لا توافق على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة... والهيئات الدولية التي تقوم بدور الوسيط.
أعتقد بأن دول الأمن والتعاون الأوروبي – مجموعة مينسك – والتي تترأسها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا تقوم بدور خبيث ومشبوه منذ 30 عاماً في العلن تدعو أرمينيا لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة وتقوم بالمساعي لإيجاد حل للصراع وباطن هذه المساعي – الخديعة وتخدير الأزمة – عبر قرارات ومساع هي حبر على ورق من أجل إبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه دون أي ضغوطات فعلية على أرمينيا مع أنه بإمكانها أن تضغط بسهولة لكن مع الأسف النية غير موجودة... هي فقط مساع من أجل الإستهلاك المحلي والتخدير وإطالة الأزمة وإبقائها على ما هي عليه الآن؟!
ومن الجدير بالذكر أن هناك جبهة داخلية هشة داخل أرمينيا وداخل الكيان المصطنع في ناغورنو كاراباخ واقتصاد مُتهالك وعدم قدرة على السيطرة على وباء الكورونا... إضافة إلى أن رئيس الوزراء الأرميني الجديد (باشنيان) قد قمع المُعارضة وحاول إزاحة أرمينيا باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية على حساب العلاقات مع روسيا... وكل ذلك كان في غير مصلحة أرمينيا، وقد أدى ذلك ليتعامل الرئيس بوتين وروسيا بحذر مع أرمينيا رغم وجود قاعدة عسكرية روسية ومعاهدة دفاع مع أرمينيا وبأن الرئيس الروسي بوتين على علاقة جيدة مع الرئيس الأذربيجاني علييف، علماً بأن روسيا تخشى إذا استمرت الاشتباكات بأن ينفجر الوضع في مناطق القوقاز وما حولها داخل الأراضي الروسية.
وكان للموقف التركي الحازم والصريح إلى جانب أذربيجان وبقوة عاملاً في قلب الموازين ومنها الدعم السياسي والشعبي واللوجستي غير المحدود وكان من ثمارها طائرات البيرقدار المُسيَّرة تركية الصنع – والتي قلبت الموازين خلال المواجهات الأخيرة علماً بأن الأتراك لديهم شعار – أمة واحدة بدولتين – هما تركيا وأذربيجان.
كذلك فإن الموقف الإيراني معروف بأنه داعم لأرمينيا مع أن الشعبين الإيراني والأذربيجاني هما على المذهب الإسلامي الشيعي... لكن هذه المّرة كان موقف إيران حذراً لأنهم يخشون العواقب بسبب وجود أكثر من 30 مليون إيراني من أصل أذربيجاني فاضطرت إيران – ظاهرياً – إلى أن تؤكد على أن إقليم ناغورنو كاراباخ هو أرض أذربيجانية كما عرضت لبذل مساعيها السلمية لحل النزاع... علماً بأنه خلال الأسابيع الماضية خرجت مظاهرات في إيران من المناطق التي يتواجد فيها إيرانيون من أصل أذربيجاني تأييداً لأذربيجان.
باختصار فإن جبهة داخلية قوية ومتماسكة تقف خلف الرئيس إلهام حيدر علييف بطل أذربيجان المناضل وهو يستوعب أن موضوع الهدنة والجهود السلمية المطروحة عبارة عن خديعة... إلا إذا تغيَّرت الأحوال ورافق هذه المساعي برنامج وضمانات للإنسحاب من إقليم ناغورنو كاراباخ والأراضي الأذربيجانية المحتلة... ونكرر بأن – مجموعة مينسك – لا تصلح لوحدها أن تكون وسيطاً لذلك يجب إضافة دولة فاعلة بالإقليم لهذه المجموعة وهي تركيا... والاّ فإن هذه الحرب المُكلفة التي طالت أيضاً المدنيين ورافقها تضحيات كبيرة من العسكريين والمعدات والخسائر الإقتصادية والمادية لا داعي لها.
باختصار فإن القيادة الأذربيجانية تستوعب الخديعة المقدمة... ولن تقبل هذه المّرة إلا بنتائج محسوسة وضمانات دولية.
... وإذا لم يتحقق ذلك فسوف تستمر هذه الحرب لمدة طويلة وتحرق الأخضر واليابس كما سيؤدي ذلك إلى خطر توقف أمدادات النفط والغاز من أذربيجان إلى أوروبا وذلك في غير مصلحة الدول الإقليمية والمجتمع الدولي.
... علماً بأن الحرب الآن نتيجتها معروفة فهي لصالح أذربيجان.