قبل ان التحق بالأمن العام عام ١٩٧١ بدأت حياتي العملية كتلميذ مرشح طيار وابتعثت في دوره تدريبية لبريطانيا عام ١٩٧٠ لتعلم الطيران حيث لم يكن في ذلك الوقت مدرسة للطيران في سلاح الجو الملكي الاردني في الاردن.
لن اتحدث عن التجربة الأولى والصدمة الحضارية لشاب في التاسعة عشر ربيعا من عمره يعيش في بيئة محافظة في احدى قرى شمال الأردن لم يكن بها في ذلك الوقت كهرباء ولا انابيب للمياه ولا طرق معبده، ولا ولا ولا.
ولكنني سأتناول في حديثي قصة تعلمت منها درسا لا أزال اذكر تفاصيلها الدقيقة بعد خمسين عاما على حدوثها، وارويها هنا لجيل الشباب الذين من حقهم علينا ان ننقل لهم ما تعلمنا من دروس في الحياة.
ذات مرة وانا في القاعدة الجوية في مقاطعة يوركشير في شمال بريطانيا كان عندي رحلة طيران تدريبية ومن متطلبات الرحلة ان يكون مع الطيار خارطة للمواقع التي يطير فوقها.
وكالعادة ذهبت الى غرفة العمليات في القاعدة للأعداد لرحلتي وتناولت خارطة بريطانيا وكانت الخرائط متوفرة لنا في غرفة العمليات وجلست على طاولة وكان يقابلني تلميذ بريطاني من سربي يقوم بالأعداد لرحلته.
شرعت بقص الخارطة ووضع العلامات الملاحية المطلوبة عليها وقبل ان أقوم بوضع الجلاتين نظرت اليها فلم تعجبني كثيرا فقمت بتمزيقها واحضرت خارطة أخرى واخذت اعمل عليها كما عملت في المرة الأولى ولسوء الحظ لم يعجبني ما عملته للمرة الثانية وقمت بتمزيقها أيضا واحضرت خارطة ثالثة.
في هذه المرة كان التلميذ الإنجليزي الفتى اليافع مثلي وزميلي في السرب ينظر الي بدهشه واستغراب.
وضع Bob Baily كلتا يديه على خديه وخاطبني بعصبية غير معهودة بالإنجليز قائلا: ما الذي تفعله أيها الأردني؟ انت استهلكت ٣ خرائط لحد الان، هذه الخارطة التي مزقتها تكلف سلاح الجو الملكي البريطاني جنيه إسترليني وانت قمت بتمزيق خارطتين لحد الان وغير أبه لما تفعل.
كانت ردة فعلي بعصبيه لا تقل عن عصبيته قائلا له ما دخلك؟ انت تلميذ مثلي مثلك وتلاسنا في الكلام فذهب وشكاني الى قائد السرب الذي أنبني بالطبع وأعطاني محاضرة عن المال العام وضرورة المحافظة عليه.
كنت اعتقد ان زميلي المذكور هو صديق لي حيث كنا نخرج سويا في كثير من الأحيان في عطلة نهاية الأسبوع.
لم ادرك معنى النقاش الساخن معه الا بعد أيام حينما استعرضت شريط ما حدث وادركت انه عندما تعارضت علاقاتنا الشخصية مع مصلحة بلده بريطانيا ضحّى بهذه العلاقة لصالح بلده.
ما اروعه من درس تعلمته في مقتبل عمري وبداية حياتي العملية!. صرت ومنذ ذلك الوقت وبعد عودتي الى بلدي وعندما أرى مثلا انارة زائدة في المكاتب في النهار او مياه تتسرب من صنابير مياه الحمامات، او كثرة استخدام الهواتف الرسمية في المكالمات الخاصة او ..او.. او ....يقفز اسم Bob Baily الى ذهني فاغضب لما اشاهد واحاول ان اتخذا اجراءً لتصويب الوضع.
من الواقعة ادركت ان حب الوطن ليس بالشعارات بل بالممارسة العملية ... ادركت كيف ان بريطانيا حكمت العالم لعدة قرون... ادركت كيف ان صغيرهم مثل كبيرهم لا عواطف ولا مجاملات على حساب مصلحة الوطن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمنع شعوبنا العربية ان تكون مثل هذه الشعوب في غيرتها على اوطانها؟. لماذا لا ننظر الى المال العام كانه مالنا الشخصي ونحافظ عليه؟.
ابتعدنا عن موروثنا الثقافي الغنى الصالح لكل مناحي الحياه مع الأسف واستفاد من هذه الثقافة الغرب وطبقوا الكثير منها في مناحي حياتهم، الحديث في هذا الجانب يطول.