لربما هذه شريعة قديمة قدم التاريخ وقد رسَّخَتها شريع حمورابي واتبعها الكثيرون حتى على مستوى الأفراد أنفسهم. ولربما يجد كثيرون في ذلك الحل الأمثل للعقاب وردع أمثال هؤلاء ممن قد تسوّل لهم أنفسهم اقتراف أبشع أنواع الاعتداءات والجرائم بحق الآخرين. وكثيرون يجدون في ذلك شفاء غليلهم في الإنتقام من المعتدين وبنفس الطريقة التي اعتدوا بها وتسببوا بأذى معنوي أو مادي أو جسدي.
ولكن ماذا إذا اتبعنا "شريعة العين بالعين والسن بالسن؟" ماذا إذا قابلنا الإساءة بأساءة مثلها أو أكبر منها؟ ماذا لو قابلنا الشّر بالشّر؟ فهل لو جنّ الآخرون فهل أن نحذو نحن حذوهم؟ طبيعتنا البشرية تدعونا لذلك، فلا أحد يقبل أن يتعدى عليه أحد أو على أهل بيته أو على كرامته، بل ويثأثر لذلك. ولكن ماذا تكون النهاية لو كلُّ واحد ثأر لنفسه وكل من قُلعت عينُه قَلَعَ عين الآخر، ألا يصبح عالمنا كلُّه أعمى؟!
لربما هذه الحكمة تدعونا للتروي والتفكّر بأنَّه ما من مشكلة إلا ومعها حلّها مهما استعصت، وهناك من الحكماء والفهماء الذين يَقدِرون على رأب الصدع وإحقاق العدل من غير الإنتقام الفردي، ففي مجتمعنا الأردني الكريم مثلاً هناك القضاء العشائري (رديف للقضاء المدني) الذي يسعى ليس فقط لتحقيق العدل بل لعمل الصلح بين الأطراف المتنازعة، على عكس القضاء النظامي الذي يدين ويبرّأ، والذي قد يحقق العدل لكنْ لن يُصلح القلوب بين الأطراف المتخاصمة، وهذا أمر في غاية الأهمية لتحقيق الإستقرار المجتمعي والسلم الأهلي.
إن شريعة المحبة الإلهية تدعونا للتروي وعدم الإنتقام "لا تنتقموا لإنفسكم لي النقمة أنا أجازي يقول الرب". إن هذه الشريعة تدعونا لأن نفكِّر بدلاً من الإنتقام أن نبحث عن طرقٍ تقود المخطئ للعودة عن خطئة، وليس أفضل من إظهار حسن النوايا والجانب الحسن والمبادرة الإيجابية. فإدارة الخد الأيسر لا تعني أقل من استنفاذ كلِّ الجهود الطيبة والخيّرة لتصحيح الخطأ وليس مجرد الضعف أوالإنهزام. فالمؤمن لا ينهزم، بل في وسط ضعفه وإهانته وأذيته لا يميل للشّر والإنتقام وردِّ الصاع صاعين، بل بمعونة الله والخيّرين في الأرض يسعى لتحقيق العدالة حتى ولو اضطرته أن يسر ميلاً إضافياً مثقلاً بالتعب والجهد من أجل تحقيق ذلك.