"الحلقة الأولى" الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي دراسة محكََّمة أعدها.
اللواءالركن المتقاعد الدكتور *محمد خلف الرقاد* مدير التوجيه المعنوي الأسبق والملحق العسكري الأردني في القاهرة الأسبق ، وشارك فيها الباحث كدراسة محكمة في مؤتمر المئوية الأولى للثورة العربية الكبرى (1916 – 2016 ) الذي عقد في رحاب جامعة آل البيت – كلية الآداب والعلوم الإنسانية خلال الفترة من 10 - 11 أيـــار ( مايو ) 2016م ، وستصدر هذه الدراسة ضمن الدراسات التي قُُدِمت للمؤتمر في كتاب محكم عن جامعة آل البيت ، وستنشر وكالة النيروز الإخبارية هذه الدراسة على عدة حلقات تتحدث في كل واحدة منها عن جانب من جوانب الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي كزعيم للعرب وكقائد للثورة العربيةالكبرى ومفجر رصاصتها الأولى .
بحث ودراسة :اللواء الركن المتقاعد د . محمــــــد خلـــف الرقــــــــــــــاد
مدير التوجيه المعنوي الأسبق الحلقة الأولى.
الشريف الحسين بن علي زعيم سياسي و قائد عسكري استند في استراتيجيته إلى فطرته وخبرته
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من من عدة اعتبارات أهمها :
- أولاً : المكانة الدينية والاجتماعية والسياسية للشريف الحسين بن علي .
- ثانياً : الدور السياسي والعسكري الذي أدّاه الشريف لتحقيق الهدف الأسمى للثورة العربية الكبرى.
المقدمة: يبدو تناول البعد الاستراتيجي في فكر الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى أكثر صعوبة من أية أبعاد أخرى ذات صلة بالثورة، وذلك لعدة أسباب، يتعلق أولها بأدوات التحليل السياسي، وبخاصة في مجال آليات صنع القرار السياسي التي يلعب فيها متخذ القرار دوراً أسياسياً في صنع واتخاذ القرار، حيث تؤثر عليه مؤثرات عديدة من أهمها الدوافع الذاتية والخصائص الشخصية والبيئة النفسية للقائد السياسي والتي تتألف من مجموعة من المكونات الأساسية، وأهمها العقائد السياسية للقائد، ونمط إدراك القائد للمواقف، فالقائد السياسي قد لا يعلن الحرب إذا كانت قوة دولته النسبية أقل من قوة الخصوم، ولكنه قد ، بل سيتخذ قراراً بشن الحرب إذا أدرك أن هناك إهانة دينية أو قومية أساسية تطغى على توازن القوى.
ومن الأسباب أن الحسين بن علي كان قائداً سياسياً لكنه لم يدرس الاستراتيجية دراسة علمية في المعاهد والكليات والجامعات، ولكن كان لديه في الاستراتيجية ركيزتان هما: فطرته وخبرته، فقد اكتسب فطرته الاستراتيجية من بيئته الاجتماعية والسياسية ومن حاضنته الهاشمية، أما خبراته السياسية فقد اكتسبها أثناء وجوده في منفاه في الأستانة (1893-1908)، وقد احتك بكثير من القادة والساسة العرب والأتراك، وبعدد كبير من المفكرين السياسيين، حيث كان عضواً في مجلس المبعوثان، وكان منزله محجاً للساسة والقادة ولأهل الفكر والمثقفين وقادة الرأي وأبناء القبائل والحضر وأهل المدن، فاطّلع على كثير من المجريات السياسية الداخلية والخارجية في تركيا وفي العالم، مما أضاف بُعداً استراتيجياً لنمط تفكيره وإدراكاته السياسية حيث أصبح لديه نسقٌ عقيدي تضمن عقائد مختلفة عن طبيعة العالم السياسية في تلك الفترة، وعن النسق الدولي وطبيعة الأعداء السياسيين والعلاقات بينهم واستراتيجياتهم ، والأساليب المثلى لاختيار الهدف السياسي ، والاستراتيجيات المثلى لتحقيق الهدف، وإمكانية الأخذ بالمخاطر السياسية، بالإضافة لإيمانه بدور القوة العسكرية في تحقيق الأهداف، مما أعطى فكره الاستراتيجي بُعداً سياسياً وعسكرياً مهماً.
وتكتسب هذه الدراسة أهميتها من عدة اعتبارات أهمها : المكانة الدينية والاجتماعية والسياسية التي يتبوأها قائد الثورة العربية الكبرى الشريف الحسين بن علي ، والدور السياسي والعسكري الذي أداه الشريف لتحقيق الهدف الأسمى للثورة ، والظلم وعدم الإنصاف الذي واجهه الشريف من بني جلدته ، والتحديات التي واجهته على الصعيد العربي والعثماني والدولي .
لذا فإن هذه الدراسة تهدف إلى قراءة وبيان الفكر الاستراتيجي السياسي لقائد الثورة العربية الكبرى الشريف الحسين بن علي ، وهنا يمكن التعبير عن مشكلة الدراسة بالسؤال البحثي الآتي : "إلى أي مدى ساهم الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى في السعي لتوحيد الأمة العربية والإسلامية وتحقيق طموحاتها بالحرية والاستقلال من خلال إعلانه للثورة عام 1916م "؟.
وتفترض الإجابة على هذا التساؤل الرئيس البحث في مضامين وسلوكيات الفكر الاستراتيجي السياسي للحسين بن علي ؟.
وقد غطّت هذه الدراسة فترة زمنية تمتد خلال الفترة من (1908-1925)، وهي فترة تولي الشريف الحسين بن علي إمارة مكة ، وإعلان الثورة العربية الكبرى ، حيث حصلت أحداث ومواقف وظروف ومتغيرات كثيرة أثَّرت على فكر الحسين بن علي الاستراتيجي، وألقت بظلالها على الثورة العربية الكبرى ومسيرتها ونتائجها.
أما بالنسبة للمنهج فقد زاوجت هذه الدراسة في منهجيتها بين منهجين من مناهج البحث في العلوم السياسية هما : الأول :المنهج التاريخي ، وذلك لرصد الأحداث التاريخية السياسية والعسكرية ، والثاني : منهج تحليل النصوص لاستقراء فكر الشريف الحسين من معانيها وتركيباتها ومضامينها ، واعتمدت الدراسة على دراسات متنوعة فاقت العشرين مؤلفاً ، تناولت الثورة العربية الكبرى وفكر قائدها من حيث التأريخ للثورة ، وتحليل أحداثها ومجرياتها .
وستعالج هذه الدراسة الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين ، ومن ثم ستقدم في النهاية الاستنتاجات والنتائج والتوصيات التي توصلت إليها الدراسة.
الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي. للحديث عن الفكر السياسي للشريف الحسين بن علي ، ومن خلال منهجية الدراسة لا بد من النظر والتدقيق في النصوص التي صدرت عنه ، وتقرأ الدراسة في العديد منها ما يترجم المرتكزات الاستراتيجية لهذا الفكر ، فالشريف الحسين كان مطّلعاً على كثير من التفاصيل السياسية في الدولة العثمانية ، خاصة أثناء وجوده في الأستانة ( فترة النفي الذهبي ) ، حيث لاحظ مدى هيمنة حزب الاتحاد والترقي على شؤون السلطان ، ولاحظ تدخلات الدول الأجنبية في شؤون الدولة العثمانية الداخلية ، مثلما رأى الفساد والظلم يستشريان في منظومة الحكم بأكملها ، وحينما عُيِّن أميراً لمكة ، وقُبيل سفره لاستلام منصبه في مكة استدعاه السلطان عبدالحميد الثاني واجتمع به ، وتحدث إليه بصراحة من خشيته من العزل أو حتى الإعدام، وشكِّه من أن تعمل قوى الإلحاد ضد الإسلام من خلال الجمعية ( جمعية الاتحاد والترقي ) ، وهو يرى من خلال مركزه الديني والدنيوي أن تركيا تهوي في تلك الفترة ، في مستنقع الإلحاد والتطرف ، وقد وجد الشريف الحسين نفسه - نتيجة إيمانه القوي بالإسلام وبالقيم التقليدية ومن خلال فهمه لدور الحكام - على أرضية مشتركة مع السلطان عبدالحميد ( بيكر ، 2004 )
وساءت الأوضاع إلى الحد الذي انتشر فيه الفساد ودب الضعف في أوصال الدولة التي وصلت إلى حد مرحلة الاحتضار، فكان لا بد لأمير مكة من البحث عن مخارج سياسية وعسكرية واقتصادية تنقذ البلاد العربية من هذا البلاء الذي نخر جسدها، وحالة الضعف التي حلَّت بها، فالأمة العربية كانت في وضع لم تعد فيه تملك زمام نفسها، أو تقرر سياستها ، ومع هذا استمر الشريف الحسين بن علي على وفائه للسلطان العثماني ، إلى أن زادت أمامه التراكمات السياسية الكثيرة ، مما حدا به إلى اتخاذ توجه سياسي يتقاطع مع الاتحاديين ، ولم يتخذ هذه السياسة المناوئه للاتحاديين إلا بعد أن تبلور أمامه عدد من الأسباب لتغيير سياساته تجاه الدولة العثمانية وأهمها:
أ. اطِّلاعه على التدخلات الأجنبية بشؤون الدولة العثمانية حينما كان منفياً في استنبول، وخلال فترة عضويته في مجلس المبعوثان.
ب. اطِّلاعه من كثب على الفساد الذي عمَّ مرافق الدولة العثمانية.
ج. إلغاء الدستور العثماني في عام 1908م ، واستبداله بدستور جديد.
د. خلع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وتعيين سلطان مثّل أداة طيعة في قبضة الاتحاديين.
ه. اختلاف الشريف حسين مع الوالي التركي سليمان باشا الذي رفض الائتمار بما يشير فيه الشريف من تعليمات بحجة عدم تلقيه أمراً من الباب العالي بذلك، حيث طلب الوالي من الشريف أن تبقى الوحدات العسكرية النظامية التي وصلت مع أمير مكة تحت إمرته (الوالي التركي) حتى يأتي توضيح من الباب العالي، بخلاف ذلك، وكان الشريف الحسين ابن علي يعتبر نفسه ممثلاً للسلطان العثماني وليس أحداً غيره ، استناداً إلى المذكرة التي سلمها له الصدر الأعظم كامل باشا ( عبدالله بن الحسين ، 1985 ) .
و. وكان أبلغ الأسباب الذي غيَّر من معتقداته السياسية تجاه الدولة العثمانية ما شاهده وسمع عنه من أفعال الجيش التركي الشنيعة بالعرب أثناء غزوة عسير، فأغاض مشاعره ما رآه من تمثيل وأفعال فظيعة وقعت من الجيش العثماني بحق العرب، فقال " ليس من خير في هؤلاء للعرب"، فترك "أبها" وعاد إلى الحجاز بالقوات الهاشمية.
البيئة السياسية السائدة في تلك الفترة .
إن أهم قرار سياسي أثار حفيظة العرب والشريف الحسين، وأدّى إلى استنكارهم هو إعلان الدولة العثمانية الوقوف إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، مما أثار حفيظة العرب والمسلمين، وحدا بهم إلى التعبير عن عدم رضاهم عن هذا القرار، خاصة وأن تركيا كانت خارجة تواً من الحرب الإيطالية والحرب في البلقان، مما أثَّر عليها معنوياً واقتصادياً.( القبلة ، 1916 ) .
ولما كان الشريف الحسين أميراً على مكة التي يتوجه إليها العرب والمسلمون، ونظراً لما كان له من صلة مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ـــــــ والتي شوهها الاتحاديون إلا أنها لم تنقطع بعد ــــــــ أرسل الشريف رسالة "سرية" إلى السلطان "محمد رشاد الخامس" في شهر آب 1914 جاء فيها: " إن الانضمام مع ألمانيا في الحرب ضد الدول الكبرى فرنسا وبريطانيا وروسيا ليس في صالح الدولة العثمانية، ونحن هنا محاطون بالدول العظمى البحرية المعادية، وسنصبح في أحرج المواقف وأخطرها عندما نتحرك، وإن اتكال الدولة العلية في الدفاع على أهل البلاد فهم ليسوا منظمين ولا يملكون السلاح واستحلف جلالتكم بأن لا تدخلوا الحرب" .( الشريقي ، 1984 ) .
يعكس مضمون هذه الرسالة فكراً استراتيجياً سياسياً وعسكرياً متميزاً، نظراً للبعدين الآنفين التي انطوت عليهما الرسالة، فهي صادرة عن فكر لديه الإدراك الاستراتيجي العارف ببواطن الأمور من حيث إعداد الأمة للحرب، وتحليل البيئة السياسية والعسكرية السائدتين في تلك الفترة ، فالشريف الحسين بن علي كان يدرك أهمية توازن القوى، فالدول الأوروبية تمتلك القوة العسكرية التي تعتبر الركيزة الأساس لتحقيق الاستراتيجية السياسية والعسكرية، فالانتشار العسكري الأوروبي الواسع الذي كان يحيط بأراضي الدولة العثمانية من مختلف الجهات البرية والبحرية يُحكِم القبضة على مداخل البحار والمحيطات، وهذا الانتشار العسكري سيجعل الدولة العثمانية والولايات العربية في حرج سياسي وعسكري في آن واحد.
كما كان الفكر الاستراتيجي للشريف يدرك مدى ضعف الواقع السياسي والعسكري للدولة العثمانية التي كان يطلق عليها آنذاك "الرجل المريض" فكان في صورة واضحة عن هذا الواقع الذي لا يسعف الدولة العثمانية في تحقيق أية أهداف تصب في صالح بقائها واستمراريتها إذا ما دخلت الحرب إلى جانب دول المحور.
كما كان الشريف يدرك أهمية إعداد الأمة للحرب، والدولة العثمانية لم تقم بشيء من هذا القبيل، فأهل البلاد ليسوا منظمين ولا يملكون السلاح.
يتبع في الحلقة الثانية
ملحوظة . توثيق الدراسة والمراجع سيتم تثبيتها في نهاية آخر حلقة من هذه الدراسة .صورة الكاتب اللواء الركن م الدكتور محمد خلف الرقاد.