قليل هم الرجال الذين ترسخ صورهم في الذاكرة وتقفز بين حين وآخر كلما اشتدت الحالكات على خطى السالكين، وفي الظروف الصعبة يصبح البحث عن هؤلاء الرجال/ أصحاب الهمم، مُلحّاً..
داود المجالي/أبو أشرف من هؤلاء الذين نفتقدهم في دياجير واقعنا، وتخبّط مسيرنا، ورعونة حلولنا، وضعف مواجهاتنا.. إنه حالة متفردة كشخص خلوق رزين هادئ الطبع دافئ الكلمات رحيم الملامح، وكل هذه الصفات انعكست عليه كتربوي وواجهة اجتماعية ومرجعية عشائرية..
مكون شخصي نادر لهذا الرمز الأردني الذي توفي في 9/10/2009، وعلى الرغم من مرور عشر سنوات على وفاته ما زالت بسمته تُلح على الخاطر، وكلماته الفصل تتعطّر بالاحترام.
كان أول لقاء لي بالمرحوم أبي أشرف سنة 1954، حين أخذني والدي رحمه الله الى مدرسة المزار الجنوبي لأبدأ فيها مشواري الدراسي، كنت متعلقا بعباءة أبي وأنا أدلف معه غرفة الإدارة.. لوالدي علاقة جيدة مع المعلمين إجمالاً لأنه كان تاجراً، إلاّ أنني وجدت ترحاباً خاصاً من المرحوم داود بوالدي فكفّت دقات قلبي عن التسارع وهدأت أكثر حين ناداني المرحوم ومسح على رأسي وقال: ما شاء الله هو عندي يا عبدالله مثل أولادي.. منذ تلك اللحظة وجدت في العم والملاذ والسند والرمز.
ذات يوم عاقبني أحد الأساتذة واسمه(اندراوس) وأدمى ظاهر أصابعي بالمسطرة فغضب والدي غضباً شديداً وجاء إلى أبي أشرف وأراه ما فعله الأستاذ وسألني عن اسمه فلثغت به على طريقتي(اندوس)، فضحك حتى بانت نواجذه، فطلب من الآذن أن ينادي له هذا الأستاذ فجاء المسكين خائفاً وقال له أ[و أشرف بعد أن أراه أصابعي المدماة: أهكذا يكون التدريس يا أندراوس، كل الأولاد في المدرسة هم أولادي، هذا إنذار أخير لك؟؟ غادر والدي مرتاحاً وابتسم لي أبو أشرف وأنا أغادر إلى الصف برفقة الآذن.
مرت سنتان على إدارة داود المجالي لمدرسة المزار وانتقل بعدهما ليكون مفتشاُ على مدارس الكرك، فتأثر على نقله الطلاب وأهاليهم، وظلت علاقته بالمزار وثيقة إلى أن توفاه الله.
لم يكن في المزار سنة 1965 صفٌ للتوجيهي لذلك من أراد إكمال دراسته انتقل إلى الكرك، وكان عدد طلاب المزار الذين رغبوا بإتمام الدراسة الثانوية قارب الثلاثين وجميعهم يعانون من قسة الحياة والفاقة وأنا منهم حتى أنني لم أجد أجرة لغرفة استأجرتها في الكرك فاضطررت على الى الذهاب الى المدرسة والعودة منها مشياً على الأقدام لعدم وجود أجرة الطريق وكانت المسافة بحدود ال(11)كم، يومياً صيفاً وشتاء، الأمر الذي يعرّضنا للتأخر على الطابور الصباحي فندخل الى الى المدرسة متسللين من أبواب جانبية بعد إغلاق الباب الرئيسي، وكان مدير المدرسة الاستاذ خليل الكركي الذي لم يتعاطف معنا أبناء المزار مطلقاً، وكنت أعرف أن مدير مكتب التفتيش هو الاستاذ داود المجالي، حتى كان يوم انفجر فيه الوضع.
كيف تكشفت أزمتنا أمام الاستاذ داود؟
كان عارف حدادين يُدرسنا الإنجليزي نحن فرع/ج، وهو استاذ ضعيف جداً وغير متمكن من مادته في حين كان يُدرس الفرع/ب وهم من أبناء المدينة أستاذ قدير هو وديع صوالحة، وأصبحت دراسة الانجليزي عندنا ذاتية بعد أن يأسنا من قدرات أستاذنا، فاقترحت على الزملاء ان نذهب الى الاستاذ داود ونطلعه على الأمر، فطلبوا التريث لعل الاستاذ داود يزور المدرسة ونشكو له حالنا.
وفي صباح يوم دراسي دخل استاذ الانجليزي وراح يشرح لنا قاعدة من قواعد اللغة وغلط بها، وكنت(شاطراً) وعند المراجعة قلت للأستاذ ان القاعدة التي كتبتها مغلوطة، وذكرت له القاعة الصحيحة، تبسّم ودنا مني ولطمني كفاً أسال الدم من أنفي وطلب مني أن أنزل الى المغاسل لأنظف الدم وأنتظر عند الإدارة، فاغتنم الفرصة ومسح اجابته المغلوطة وكتب اجابتي ولحقني عند المدير واشتكى بحجة انني غلّطت اجابته وطلب من المدير ان يذهب الى الصف ويرى.. في الاثناء مسح زملائي ما كتبه الاستاذ وأعادوا كتابة اجابته اخاطئة فجاء المدير واكتشف الحقيقة ورجع الى الادارة وحقق معي وانتصر للاستاذ وقرر طردي اربعة ايام مع التهديد بالنقل الى الطفيلة او الفصل..
في المساء استضافني بعض الطلبة عندهم للبحث في الامر، واقترحت عليهم الاضراب عن الدوام حتى يغيروا استاذ الانجليزي وعودتي الى المدرسة، وفي الصباح تجمعنا في المكان المحدد وغاب طالبان اخترقا الاضراب وصفّا وحدهما في الطابور وتم تهديدهما، وفي اليوم الثاني التأم شمل المضربين وما هي إلا! أقل من ساعة حتى جاء الاستاذ داود والاستاذ خليل الذي بدأ يرشقني بالسباب والشتم واعتبرني المحرض، فأسكته الاستاذ داود قائلا: ابناء المزار من عائلات من محترمة ولهم علاقة بالاحزاب ويعرفون كيف ينتزعون حقوقهم. هدّأ خواطرنا بكلامه الطيب وسأل من المتحدث باسمكم فأشاروا جميعهم الي، فقال: ماذا تريدون يا بني؟ سؤال مباغت من قائد تربوي حنون عظيم، ارتبكت من لطفه وتبسم وهو يُلح علي لأتكلم: أريد لزملائي مدرساً قديرا.
وذكرت له موجه اللغة الانجليزية سليم الربضي. فقال: انت تعرف ما تريد أت تصل إليه. اقترب مني وطبطب على كتفي، وقال: لكم ما تريدون، وأنت لست مطروداً. وواصل: لو لم نلبِ لكم هذا الطلب ماذا ستفعلون؟ قلت بثقة: نذهب الى الوزير. قال: والآن؟ قلت وأنا ألحظ ابتسامته الساحرة: أنت أمامنا الآن الوزير.. مسح على رأسي وقال: هيّا الى صفكم وسيأتيكم سليم الربضي.. صفق الطلبة ورافقنا الاستاذ داود رغم ممانعة الاستاذ خليل.. كان يوما مشهودا ومؤثراً برفقة هذا القائد الراقي.
ظهرت نتائج التوجيه في شهر تموز 1966 وكانت النتيجة صادمة للذين راهنوا على رسوبي ومنهم مدير المدرسة وبعض الاساتذة لأنهم اعتبروني مشاكساً(ولست تّبّع قراية) إذ كنت من العشرة الأوائل/ الثالث على طلبة الأدبي.. والتقانا المرحوم داود وسأل كل واحد عن اسمه وأهله فعرف والدي وتذكّر الإضراب فابتسم ابتسامة الرضى كعادته في حين وُجه لي سؤالٌ من أحد: كيف نجحت وانت مشكلجي؟ قررت أن لا أجيب لكن الاستاذ داود رحمه حثني على الإجابة ببسمته المعهودة فقلت بعد صمت: لم يكن التحدي مع الدرس والكتاب ولكنه كان مع إهمالكم وكراهيتكم.. نحن كنا نصارع ضد التيار الذي لكم دور في صنعه.. صفّق الاستاذ الكبير وأدناني منه وهو يهز رأسه وتمنى لنا التوفيق.
دارت الأيام وعملت موظفاً في ديوان الموظفين(ديوان الخدمة المدينة حاليا) وفي قسم التربية، وفي سنة 1968كان موسم الترفيعات للمعلمين وحين استعرض أعضاء اللجنة تقارير مئات المعلمين من الكرك وجدوا أن تقاريرهم التي مرّت من بين يدي المرحوم داود وكان آنذاك مديراً للتربية لا تساعدهم على الترفيع فاضطرت اللجنة إلى تعديل التقارير ليتم ترفيعهم أسوة بزملائهم، لم أكن من اللجنة وإنما الموظف الذي يُحضر الملفات، وكنت مع الاستاذ داود في قراراته لكراهيتي لمعلمي الكرك. بقيت علاقتي مع المرحوم قوية ولم تفتر بسبب عملي في عمان، لذلك سألته في إحدى زياراتي له عن قصة تقارير معلمي الكرك، فقال: أعطيتهم حقهم، عامل التفاني عندهم نادر، حتى أحسست أن بعضهم لا يليق به أن يكون في هذه الوظيفة السامية المحترمة.
بدأت الكتابة في جريدة الرأي سنة 1975 وقد تعرضت لكثير من قضايا التربية في مقالاتي وكان منها ما له علاقة بتربية الكرك فقد علمت في العام الدراسي 1980م بأن طالبة في إحدى مدارس الكرك لا تعرف كتابة اسمها وكان صفها أول ثانوي وقد حصلتُ على ورقة امتحان لها من إحدى معلماتها فوجدت العجب في كتابتها، فجعلت مقالتي تلك الفترة عن هذه القضية التربوية ولم أحدد الجهة، فاتصلت معي وزارة التربية لأوجه كتاباً باسم المدرسة والطالبة ومدعماً بالإثباتات وموجهاً لمعالي الوزير وكان حينذاك الدكتور سعيد التل، فكتبت له، وبعد زمن وصلني كتاب شكر من الوزير، كما اتصل معي المرحوم الاستاذ داود وشكرني ولم حينها أهو في التربية أم تقاعد وطلب مني زيارته، فزرته وشكرني مرة أخرى، وخفت من أن يكون قد أخذ على باله، لكن الكبار لهم نفوس عظيمة ومفتاحها كما رأيت من المرحوم أبي أشرف هذه البسمة الساحرة والأريحية التي لا تُبارى.
بقيت علاقتي بالمرحوم داود قوية ومتينة وكنتُ أتحين الفرص لأراه من قبل أن يتقاعد وبعد تقاعده لأقدم له الاحترام فهو حقيق به، فهو أنموذج نادر بين من عرفت من الكبار في مجتمعنا الأردني، وقامة قلّ نظيرها بين قادة المجتمع والتربية.
يوم دفنه كان يوماً حزيناً والقوم يُوارون جثمانه الثرى، يوم الخميس12/11/2009 كان رحيله استثنائياً ووقعه ثقيلاً على النفوس، وكأننا حين أودعناه المقبرة دفنّا زمناً جميلاً وحلماً رائعاً.
رحم الله الفقيد أبا أشرف، فإنه أحدث فراغاً كبيراً في فضاء المهابة والزعامة الحقيقية.