من أيام أمحص قرار مغادرة جحري الفردي، أتناوق من الباب وأنكس، كمتهم- يجهل تهمته- ويخشى الإنكشاف أمام أي شئ، حتى على الصبيان الذين لم يتقنوا بعد تطريز الوشايات، احيانا تستفزنا المرايا ونحن نعبرها، فنشعر وكأنها تترصدنا داخل جدران البيوت. ماهذا الشطح غير الواقعي؟ القصة ببساطة أنني قليلة الدوج، قصيرة الخُطى على ارتياد الأسواق، ليس أكثر .
الجو مبهج كعبق جدي، مغري المشي التائه على الطرقات المغسولة بماء السماء، وجوه الناس قريبة وحبيبة جدا، لولا الخجل لصافحتهم، قائلة: يا عالم وين هالغيبة من زمان ؟! ولو.. ويكأن العتاب يجر عتاب "شامة شعرنا" عرار "أهكذا حتى ولا مرحبا.. لله أشكو قلبك القلبا" ... صه بلا هَبل.. أنت كنت متمترسة خلف جُدر شتائك، في وحشة مقابر الفيسبوك ومواقع التيك وي الإخبارية، ونتف الكتابات المتوقعة على الذات .
مدة قصيرة غيرت ملامح السوق، قُلبت طبيعة عمل بعض المحال، ملحمة الأسرة صار مكانها ريمي للألبسة الأوروبية، اكشاك القهوة المستعجلة توزعت بضيقها على أمل اصطياد زبائن أدركتهم عقارب الساعة، إعلانات البيع و وموت أبواب رزق وشحت بعض الواجهات، البيع لعدم التفرغ أو لدواعي السفر، كلمات حتت أحرفها قسوة الصقيع والهجران، تبدو صفراء كبقايا كفن ظل وراء غُسل ميت مجهول. إلى أين سيسافر هؤلاء؟ مالشاغل الذي صدهم عن باب تعالت على عتباته آمال الستر ؟ ، أبصر، قد تكون القروض والديون المستحقة وتراكم إيجارات وتقلص كفاية اللقمة، لأناس عاشت حياتها يوما بيوم، كالطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً.
إنساب من صالون حلاقة صوت اغنية فيروز، انا وشادي، أركيت ظهري للجدار القريب ، تظاهرت البعبشة بالهاتف لأمتص صوتها الشجي، هذه أغنية يحبها معظم الناس، إنها لغة اليأس و لوعة الفقد، فكلنا مكسرة أجنحتنا من فقد لا نستطيع توصيف ملامحه بعض الأحيان.
لطالما أحببت سماع فيروز بالصدفة، وأنا أمشط الأماكن، من مقهى ينود على كتف حارة، من مواصلات أرهق كراسيها عمال الباطون أو راديو كوافيرة يعافر من أجل البقاء على صدى الجمال ، تأخذني أغنية ع هدير البوسطه ووجهي يستطع الإسفلت يراكض الباص، تتصل برودة أطرافي بمشهد الشوب، والخس فأشتهي التين في عز البرد، ع سيرة التين مرة رافقت جدي لزيارة صديق، أخذنا معنا له شرحة تين، اجهزنا على معظمها في الطريق ونحن نتذواق الحبات العاسلة.. ماتهكلوا هم كان معنا كمان بكسة بردقان.
لو كنت كتبت لفيروز أغنيتها لغيرت اسم شادي لاسم زعل، زعل يناسب مزاجنا أكثر...يلائم حياتنا في جل جوانبها، منذ بدايتنا البريئة، وحتى ولجنا عمر البطالة وكهولة الانتظار في آخر الشهر، آخر العام، آخر كلمة في الموازنة.
عادت السماء تقطر ، تلاشت المحال التي تستر عري الطريق، فلم يعد هناك ما اتقي به ثقوب قرّبة الغيم ، ليغسلني المطر إذن ، كلنا في داخلنا دائما مطر يوشك على البكاء، بكاء حييّ، لا تُفض بكارته أمام غير وحدتنا، كما غناه "وتر تراثنا" عبده موسى"لقعد بتالي الليل وأذكر وليفي.. وبحجة الحلمان لبكي عكيفي".
يتضح أنني أثرت حنو المارون على مهل، خفف سرعة سياراتهم كذا رجل وامرأة، كلنا نسير في ذات الإتجاه، مبادرات لطيفة وأن حلدنا ذواتنا صباح مساء ، كيف لا، فهذه تركيبة الشعب الطيب، الموسوم بالفزعة والتعاطف برغم ما يمر عليه من حبوطات مع أصغر الأحداث ، لا مبالغة ، فنحن نتعاطفهم حتى مع موت فاسد ما، قد نكون بل كنا نشتمه كلما ورد ذكره، فما أن يوشح العناوين الرئيسية خبر وفاة غريمنا ذاك، حتى نتسابق لتطريز كلمات نعيه وبكاء رحيله بمرارة، ووصفه بالقامة التي قدمت للوطن عصارة جهدها وفكرها، مع أن الوطن هو صاحب المتقدمة دائما ، لا فضل لأحد عليه، مهما طال باعه وذراعه في مناصب اللبن والعسل ، فهاهي صوره ننبشها من هواتفنا وننشرها، كي نثبت صدق النعي وعمق العلاقة المتخيلة مع جنابه في الحياة.
حتى الآن جئت على باكيت محارم فاين، جراء خبطة البرد وما نتج عنها من رشح ، رشح يشبه رشوحات التصريحات الرسمية، مرة يدلف فجأة، أحاول منعه عن شفتي العليا، ومرة يرافقه عطاس يُرادس معه راسي طرف الكنباية.. المهم أن خشمي مازال قادرا على فرز روائح العفونة ..
بدأ النهار يتنحى عن البلكونة الكسولة، موسيقى حربية تطبل في التلفزيون، كل الحروب متشابهة وأن تدارت خلف الأقنعة، الفرق فقط في مستوى الوجع..."شعرة معاوية" شابت على صدر زعل الاسمراني البهي ...
لاح خد شمس العصر من جديد جارتنا تكف غسيلها، وقطتها تتمطى في الحديقة، وكأن السحب لم تبلل ثكنات ذاكرة هذا اليوم.. !!!