قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحرب الدائرة في أوكرانيا سيتوقف تأثيرها حيث هي وأن شططها لن يطال العالم بأسره ومن ضمن هذا العالم منطقتنا العربية، وهذا غير صحيح فهذه الحرب تعيدنا الى أجواء الحرب الباردة التي ألقت رحالها في العام ١٩٨٩م، في حينها كان الصراع بين الشرق والغرب يُدار بالوكالة، وكانت المنطقة العربية واحدة من أهم ساحات هذا الصراع، والحرب الدائرة الآن ليست إلا مظهراً للصراع على الزعامة العالمية، رأس حربته الصين وروسيا في محاولة لصياغة نظام دولي جديد، فالقناعة لديهما تعززت بأن الولايات المتحدة في طور الأ?ول والتراجع وبالتالي عليهما اقتناص الفرصة ولن تكون اوكرانيا إلا احد أوجه هذا الصراع وشرارته الاولى.
وفي محاولة لقراءة المواقف في المنطقة العربية، نجد أنها بُنيت على أساس الفجوة التي تكونت بين الولايات المتحدة والمنطقة العربية، بالذات منطقة الخليج العربي، حيث كان تراجع الاهتمام الأميركي بشكل واضح لمصلحة مناطق اخرى من العالم، هذه الفجوة حفزت روسيا لإشغال حالة الفراغ، ويلاحظ ذلك من خلال اتفاقيات التسليح الثنائية التي عُقدت بينها ودول عربية عديدة، ويبدو أنها نجحت ولو جزئياً في طرح نفسها كبديل موثوق للولايات المتحدة، أيضاً لا ننسى قناعة الأطراف العربية بأن أميركا باتت عاجزة عن إقامة تحالف حقيقي يواجه الأخطار ?لمتنامية من الصين وروسيا بالذات أن العلاقة عبر الأطلسي وفي حلف الناتو كانت شديدة التوتر بعد فترة حكم ترمب، تلك المعطيات صاغت مواقف العديد من الدول العربية في موقفها من الحرب الاوكرانية، وبات موقفها معلقاً وحرجاً بين روسيا والولايات المتحدة، لكن الوقائع على الساحة الدولية تشير إلى تمكن الولايات المتحدة التي استطاعت بسرعة لافتة أن توحد حلفاءها على هدف واحد هو ردع روسيا وهزيمتها.
كل تلك التداعيات سترتب على المنطقة العربية دفع أثمان باهظة في أكثر من قضية، فهي قد تبدو الآن محط الاهتمام بسبب ارتفاع الطلب على مصادر الطاقة، كونها المكان المقترح لتعويض النقص لكن هذه الموجة سرعان ما ستزول بعد أن تستقر الأسواق لأسباب عديدة، ربما من أخطرها أن كلا الطرفين المتصارعين قد يلجآن إلى فتح الحنفية الإيرانية إما بواسطة روسيا التي ستخفف القيود عن إيران، أو الولايات المتحدة التي قد تذهب لعقد صفقة مستعجلة معها لتمكنها من رفد السوق بكميات اضافية من النفط والغاز، في تلك اللحظة لن يعرف أحد أن هذا الغاز ال?ُباع إيراني أو روسي، وبذلك تكون إيران قد كسبت طرفي المعادلة، أما بالنسبة للعرب فسيدخلون في مستنقع الحاجة للسلع الغذائية وأولها القمح، فهي في اغلبها مستوردة لهذه السلعة من أوكرانيا أو روسيا، بالذات الفقيرة منها، ومثلما قادت هذه السلعة سابقاً إلى اضطرابات وثورات، ربما ستكون مفتاحاً لحالات مشابهة في فترة لاحقة فيما لو طال أمد الصراع هذا، عدا عن أن روسيا شريك أساسي في صراعين رئيسيين، أعني السوري والليبي وقد تلجأ في كليهما إلى التأجيج للاستفادة من قضية اللاجئين، حيث بإمكانها الضغط على أوروبا والعالم بهذه القضية? وربما تكون هاتان الدولتان نقطة استنزاف مستدامة في المنطقة، أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فلها حديثها الخاص بها.
لكن المعضلة الرئيسية أن الحرب الأوكرانية أنهت نظاما دوليا قائما وأدخلتنا في مرحلة مخاض انتقالية من الفوضى، ستكون الحروب هي علامتها المميزة، ولا يعلم أحد كم ستطول، وفيها ستتصارع الأطراف الطامحة لتصدر المشهد العالمي، والمنطقة العربية ستدخل في منعطف خطير هو أنها ستكون مضطرة للموازنة بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، لكن الخطير في الأمر أن عملية الموازنة ستكون شديدة الصعوبة في ظل وجود قوى إقليمية، تسعى إلى الاستفادة من حالة الفراغ الناتجة عن عدم وجود راع دولي للمنطقة، وستسعى هذه الأطراف بكل ?دّ للسيطرة على الدول الضعيفة وهي في أغلبها عربية، وهذا يدخلنا من جديد في مخاض الصراع على البقاء كدول وكيانات سياسية ومجتمعات.