في خطابه الذي يوصف بالتعبوي، أثار قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة يحيى السنوار أمام نخبة من القيادات العسكرية والسياسية والمجتمعية، مساء يوم أمس السبت، حالة من التفاعل والاهتمام على كافة الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، لما احتواه من مضامينَ مهمةٍ وفي غاية الخطورة ضمن رسائلَ واضحةِ المحددات، وبلهجة القادر على التحكم بقواعد الاشتباك دون منازع، في ظل الانسحاب العربي الإسلامي الجزئي من التزام بالقضية الفلسطينية وخاصةً ملف القدس، وقد وضع الاحتلال الإسرائيلي الشعب الفلسطيني في مازق وجودي، تحت شعار "نكونُ أو لا نكون"، بحيث حُشِرَ في الزاوية وحيداً كأنه بات ما الماضي؛ ليسهلَ اجتثاثه!، ووضع في ظل التصعيد الإسرائيلي والصمت العربي المطبق، أمام خيارين لا ثالث لهما:
الأول يتمثل بتجرع السم الزعاف، والقبول بسياسة الأمر الواقع في إطار اتفاقيات سلام تقوم على تصفية القضية الفلسطينية.. وكان آخرها الاتفاقية الإبراهيمية الأشد خطورة.
ولعل السعيَ الإسرائيليِّ لهدمِ المسجد الأقصى وبناءِ الهيكل على انقاضه خطوةٌ نحو نهاية الصراع وفق رؤية المحتل الضيقة.
أما الثاني، فمواجهة هذا المشروع الصهيوني المليء بالإحباطات، من خلال معركة التصدي للاعتداءات الإسرائيلية المبرمجة زمنياً، على المسجد الأقصى المحتل، واستهداف المصلين فيه، والردّ من خلال إشعال المقاومة لمعركة إقليمية دينية لا تَقْدِرَ عليها "إسرائيل"، في سياق حرب فلسطينية وجودية تبتغي تحرير فلسطين مرحلياً في نَفَسٍ طويل .
فالرسالة الأبرز كانت لـلاحتلال الإسرائيلي، ومفادُها أنّ كلَّ مبرراتِ المواجهةِ معه حاضرةٌ مع استمرار اقتحامات المسجد الأقصى من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، والتخطيط للاقتحام بعد العيد فيما يسمى بيوم "الاستقلال" في الرابع من أيار الجاري، أي بعد العيد مباشرة، الأمر الذي سيفرض مواجهة جديدة بين الطرفين.
وهذا يفسر التزامن النسبي مع ما صدر مؤخراً من تهديدات تحمل نفس المضمون من قبل إيران وحزب الله، الأمر الذي سيمنح كلمة السنوار بعداً واقعياً يتمثل بأن الحرب ستكون إقليمية حينما يتعلق الأمر بالمسجد الأقصى، ويمكن رصد ذلك في كلمة السيد حسن نصر الله الأخيرة.
لذلك قال السنوار "يجب أن نكون على أهبة الاستعداد"، وإن المساس بالأقصى والقدس يعني حرباً إقليمية، مؤكداً:
"ونحن عند مقدساتنا لن نتردد في اتخاذ أي قرار"
إلى أن قال:
" إن غزة وفصائلها المُقَاِوَمة ستشكلُ الضامنَ الحقيقيّ للدفاع عن حقوق شعبنا ومقدساتنا".
وإنه "على شعبنا وأمتنا أن يتجهزوا لمعركة كبيرة إذا لم يكفَّ الاحتلال عن الاعتداء على المسجد الأقصى".
إن خطاب السنوار التعبوي يمثل خيار الضحية التي حشرت في الزاوية، إزاء إي قرار إسرائيلي مجنون يستهدف المقدسات الإسلامية في وضح النهار دون أن يحرك العالم ساكناً.
وهي معركة غير مرتبطة بشهر رمضان الذي أوشك على الرحيل، لا بل بدأت لتوها بكل ابعادها الدينية والوطنية متضمنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني التي يعرفها القاصي والداني.
ويتضمن الخطاب أيضا رسالة تحفيزية يستنهض السنوار من خلالها همم شباب الضفة الغربية والداخل المحتل، ودورهم المحوري في الصراع والمواجهة مع الاحتلال.. لذلك طالب السنوارُ النوابَ العربَ في الكنيست بالانسحاب؛ تلبية لنداء الواجب..
وهي دعوة لتوحيد المقاومة في عموم فلسطين المحتلة واستعادة زمام المبادرة من قادة أوسلو الذين أخفقوا وتم استنزاف خياراتهم.
والساحة مهيأة لخيار المقاومة الذي خرج من عنق الزجاجة وخاصة في فلسطين الداخل والضفة الغربية، بفعل العمليات الفردية منذ بداية شهر رمضان، فأصابت نظرية الأمن الإسرائيلي في العمق بمقتل.
وكان آخر تلك العمليات الفدائية، يوم أمس السبت حينما نفذ شابان من سلفيت بالضفة الغربية المحتلة عملية اطلاق النار عند مستوطنة أريئيل، حيث قتل فيها حارس المستوطنة، وبعد مطاردات واشتباكات مع "قوة من اليمام" و"الشاباك"، تم إلقاء القبض عليهما.
وللعلم هذه المستوطنة أقيمت على أراضي سلفيت المحتلة شمال الضفة الغربية عام 1978 عشية توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر.. ما يثبت بأن اتفاقيات السلام منذ البداية ما جاءت إلا لتشكل غطاءً سياسياً لجرائم الاحتلال، وأن خيار المقاومة هو الضامن لحقوق الفلسطينيين.
هذا ما يستشف من خطاب السنوار التعبوي الرادع، الذي تضمن أيضا رسالة قوية إلى الاحتلال الإسرائيلي، في ظل سكوت العالم عن جرائمه بحق الشعب الفلسطيني مفادها بأن هذا المحتل الغاشم سيواجهُ مقاومةً فلسطينيةً مستمرةً (مدنية وعسكرية) متناميةً حتى تحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني بشتى السبل المتاحة.
وانطلاقاً من وحدة الصف الفلسطيني، المتمثل بغرفة العمليات المشتركة التي تمثل كل الاطياف الفلسطينية تحت عباءة المقاومة (تضم 12 فصيلاً) فقد توعدت المقاومة وفق ما جاء في كلمة السنوار، بأن الردَّ على الانتهاكات الإسرائيلية المتوقعة في يوم "نكبة فلسطين"، بما يسميه الصهاينة ب"عيد استقال إسرائيل!" سيحمل اسم الشهيد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي طالما حظي بإجماع فلسطينيٍّ استثنائي، من خلال الرشقة الأولى التي ستطلقها المقاومةُ في العمقِ الإسرائيليِّ في المعركة القادمة، وستتكون من (1111) صاروخاً، وهذا الرقم يشير الى تاريخ استشهاد القائد ياسر عرفات في 11نوفمبر 2004.. وهي رسالة للإسرائيليين بانهم لن ينعموا بالأمان، وداخلية تطمينية للفلسطينيين في أن المقاومة ما هي إلا مشروعاً وطنياً فلسطينياً تحررياً يمثلُ صوتَ الحقِّ الفلسطينيِّ بعد فشل أوسلو في تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني، التي انتهت بها التنازلات المتعاقبة وصولاً إلى تحجيم دورها في إطار اتفاقيةِ تنسيقٍ أمنيّ، جاءت لتكرّسَّ جهودَها في حماية المستوطنين، فيما نأت بنفسها عن مواجهة جرائم الاحتلال في الضفة الغربية الخاضعة لسيطرتها، السلطة التي تجاوزت كل الخطوط الحمر في تنازلاتها، حتى أَفْرَغَتِ القضيةَ الفلسطينيةَ من جوهرها وحولتها إلى قضية حقوق منقوصة في ظل الاحتلال، وهذا ليس خافياً حتى على الطفل في القماط؛ لتعيدَ المقاومةُ ملفَ القضيةِ الفلسطينية بكل تفاصيله إلى واجهة المشهد العالمي من جديد.
وبذلك يكون السنوارُ قد وضعَ أهمَّ الملفاتِ الطارئة في الواجهة، والعالمَ امامَ مسؤولياتِه؛ ليتعاملَ معها بجديّة، لو صدقت النوايا، وأهمها:
ملف القدس بما فيه المسجدُ الأقصى وأحياءُ المدينة المنتهكة مثل الشيخ جراح وسلوان، أيضا ما تتعرض له الضفةُ الغربيةُ ومدنُها وبساتينُها من انتهاكاتٍ في ظلِّ عجز سلطة أوسلو عن التصدي للاحتلال. ثم حصار قطاع غزة والعدوان المتكرر عليه وارتداداته الإقليمية، وصولاً إلى ملف الأسرى الشائك.
وهذا يَعْنِي وضعَ مِلَفِّ القضيةِ الفلسطينيةِ من خلال هذه التفرعات على الطاولة، ومحاولةَ ربطِهِ بحربٍ إقليميةٍ لا يستطيعَ العالمُ غضَّ الطرفَ عنها لو أشعلتها " إسرائيل" بقرار ينتظره السنوارُ كي يحققَ وعودَهُ الرادعة.
وهذه المرة قد تكون المواقفُ الدوليةِ أكثر تحرراً من السطوةِ الصهيونية لو أخذنا بعين الاعتبار المستجدات الدولية على خلفية الحرب الأوكرانية وخاصة تراجع الموقف الروسي المحايد إزاء ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي؛ بسبب ازدواجية المكاييل بعد أن شرب الروس من نفس الكأس.
وكان منتظراً كما اثبتت الشواهد الرقمية بأن الآلة الإعلامية المتصهينة تصدت لكلمة السنوار من منطلق أنها تمثل روح الخطاب السياسي لحركة إرهابية تتمثل ب"حماس"، متناسية بأنها جزءٌ من المقاومة المشروعة لشعب ما لبث يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي المشفوع له أممياً في إطار ازدواجية المعايير، رغم ما يقترف من جرائم بحق الفلسطينيين.
ويبقى السؤال قائماً، فهل يتم استثمار كل ذلك في معركة قادمة ضمن حرب وجودية طويلة الأمد! كل ذلك مرهون بمن سيحرك البيدق أولاً في لعبةٍ باتت المقاومة تتحكم بمعطياتها.