بقلم بكر السباتين..تفسير موقف المقاومة من مسيرة الاعلام وأسرار جديدة
في معركة السيادة على القدس وفي ظل المستجدات الإقليمية ذات الحسابات المعقدة، فإن المقاومة في حسابات الربح والخسارة، وجدت أن تتريث في الرد الموعود على الانتهاكات الإسرائيلية بعد أن حولت مسيرةُ الأعلام الإسرائيلية طريقها عن باحات الأقصى، في الوقت الذي ارتدعت فيه قطعان المستوطنين عن تنفيذ إجراءات المس بمبنى قبة الصخرة كما كان موعوداً يوم أمس 29 مايو توطئة للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأسير.
إن ما يدور من مواجهات شرسة، بين الجلاد والضحية، في أحياء القدس وباحات المسجد الأقصى وقبة الصخرة، إنما هي جزء من مقاومة فلسطينية مشروعة للاحتلال الغاصب، التي تطورت بفعل المستجدات الإقليمية لتجمع بين الطابع السلمي والعمليات الفردية لمواجهة الاحتلال في العمق الإسرائيلي (فلسطين الداخل) وخاصة القدس، والتصدي للاحتلال في الضفة الغربية انطلاقاً من جنين التي أطلقت شبابها لتنفيذ عمليات نوعية داخل الخط الأخضر، ناهيك عن الردع الصاروخي الذي تتحكم بمعطياته غرفة العمليات المشتركة في إطار قواعد اشتباك تفرضها المقاومة في قطاع غزة المحاصرة من العدو والصديق.. في ظل تجاهل عربي إسلامي رسمي لما يجري في فلسطين والقدس تحديداً.
ودرجت العادة أن ترد المقاومة على انتهاكات الإسرائيليين للمقدسات بإطلاق الصواريخ في العمق الإسرائيلي؛ فتقوم طائرات الاحتلال بدك غزة بالقنابل خلال غارات كثيفة.. ثم لا يحتمل الإسرائيليون النتيجة فيلجأون إلى الوسيط المصري، الذي بدوره يخرج باتفاق هدنة مؤقتة، مشروطة بصفقة إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال، وإعادة إعمار ما تضرر من جراء القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، وفك الحصار.. لتظل حبراُ على ورق.
وهو ما حصل في العاشر من مايو 2021 عقب المواجهات الدامية التي جرت بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين بعد اقتحام آلاف من أفراد الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى، حيث أطلقوا الرصاص الحي، والرصاص المُغلف بالمطاط وقنابل الصوت والغاز، واعتدوا على الصحفيين والمُسعفين، وأغلقوا العيادة الصحية في المسجد الأقصى، ومنعوا نقل المصابين إلى المستشفيات. أسفرت المواجهات حينها عن إصابة أكثر من 331 فلسطيني. والنتيجة أنَّ قيادة المقاومة أمهلت القيادة الإسرائيلية حتى السادسة مساءً في نفس التاريخ لسحب جنودها من الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين.. وهي ساعة الصفر التي بدأت برشقة صواريخ انطلقت من غزة باتجاه المستعمرات الإسرائيلية بدئاً من الغلاف وصولاً إلى العمق الإسرائيلي عند الذروة، والنتيجة كانت هدنة ووعود بإطلاق سراح الأسرى ثم حالة جمود ساد الموقف لتعاد الكرة بعد عام في ذكرى نكبة احتلال فلسطين 2022 "عيد استقلال ما يسمى "إسرائيل".
وهذا ما لمح إليه إسماعيل هنية يوم أمس في اعقاب المواجهات بين المدافعين عن الأقصى وقطعان المستوطنين الذين توغلوا في باحات الأقصى وقبة الصخرة في عدة أفواج تحت حماية قوات الأمن الإسرائيلي، في تكتيك جديد استوقف المقاومة وجعلها تعيد حساباتها لوضع قواعد اشتباك جديدة، تدخل في الحسبان توحيد المقاومة في عموم فلسطين وتطوير قاعدتها الجماهيرية؛ لتتحرك وفق استراتيجية المقاومة المستمرة في دعم المرابطين في القدس، وتحويل مدن الضفة الغربية إلى بؤر للمقاومة أسوة بجنين التي أمست قاعدة للمقاومة في الضفة الغربية، ومنطلقاً للعمليات الفردية التي نفذت في العمق الإسرائيلي.. وربط القصف الصاروخي بسياسة الردع واستخدامها في الوقت المناسب بعيداً عن توقعات الإسرائيليين.
وبذلك تكون قيادة المقاومة قد برمجت ساعة الصفر على توقيت غرفة العمليات المشتركة في غزة، وتركت الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية في حيرة من أمرها لعجزها عن توقع كيف يفكر خصومها.
وهذا يفسر ما جرى يوم أمس الأحد من مفاجآت لم تكن متوقعة، حينما تحولت مسيرة الأعلام عن مسارها الجديد وتوقفت المقاومة عن الرد بالصواريخ، علماً بأن الإسرائيليين كانوا قد أعدوا الملاجئ للاختباء فيها، وازدحم مطار بن غوريون بالفارين من الجحيم الذي كان متوقعاً يوم أمس، فبردت ناره خلافاً لكل الحسابات.
المقاومة تنبهت مبكراً للتكتيك الإسرائيلي الجديد فيما يتعلق بتهديدات المقاومة إزاء الرد على مسيرة الأعلام الإسرائيلية حينما ربطت ردها الصاروخي بمرور مسيرة الأعلام من وسط باحات المسجد الأقصى، أو تنفيذ أي عدوان او مساس بسلامة مبانيه وفق تهديدات المتشددين الإسرائيليين بهدمه..
ويبدو أن الضغوطات الغربية وخاصة الأمريكية قد أربكت حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيت، وربما عاد الوسيط المصري ليتدخل-كما أتوقع- لينزع الفتيل قبل استفحال الموقف وحصول مواجهات كان من شأنها أن تكبد الطرفين خسائر طائلة؛ لكن انعكاساتها على الطرف الإسرائيلي كانت ستكون وخيمة، لعدة أسباب أهمها:
أولاً:- كانت ستحقق للمقاومة هدفَ الردعِ للاحتلال من خلال إطلاق الصواريخ في العمق الإسرائيلي بالتدريج، والعودة إلى نفس الشروط المتكررة، والاستمرار بالمواجهات حتى تتحقق الشروط التي كان يخل بها الطرف الإسرائيلي، منها:
وقف الاعتداءات المتكررة على الأقصى، وفك الحصار عن قطاع غزة، والعودة إلى صفقة الأسرى التي ما لبثت تخضع لمزاجية الاحتلال حتى تحولت إلى مجرد ورقة ضاغطة مع وقف التنفيذ، زد على ذلك وقف العدوان الإسرائيلي على جنين.
ثانياً:- التصعيد في هذه الأزمة من شأنه أن يخلق أزمة إسرائيلية مع الأمريكيين، الذين يربطون سياساتهم الخارجية بالموقف الأمريكي من الحرب الأوكرانية، فالصراع على الأقصى في الوقت الراهن من شأنه أن يؤثر سلبياً على مواقف الدول الإسلامية في حربها الاقتصادية المعلنة على روسيا.
ثالثاً:- المواجهات المحتملة قد تضع الاحتلال الإسرائيلي في موقف لا يحسد عليه على صعيد دولي، وخاصة أن دم شيرين أبو عاقلة لم يجف بعد، وتداعياته الإعلامية ما لبثت تقوّي من شكيمة الفلسطينيين وتعزز علاقتهم بالمقاومة الموحدة، وقد واجهوا مسيرة الأعلام الإسرائيلية المنظمة والمدعومة من قوات الاحتلال، بمسيرة اعلام فلسطينية مرتجلة وقوية الصدى، واوجهوا الاختراقات الإسرائيلية لباحات الأقصى بالاشتباك مع المستوطنين الذين استفزوا الفلسطينيين العزل، وأمطروهم بالشتائم، في الوقت الذي تصدى فيه الفلسطينيون لقوات الاحتلال التي نكلت بهم دون مراعاة لكبير أو صغير.
والذي حير الإسرائيليين واثار إعجاب العالم، أن هذه المواجهات حصلت وجهاً لوجه ووثقتها مواقع التواصل الاجتماعي، حيث استخدمت في بعض جوانبها الحجارة والأيدي، الأمر الذي أثبت شجاعة الفلسطيني مقابل المستوطن الذي بدا وهو يحتمي بقوات الاحتلال، غير واثق بوجوده.. وكأنه جاء ليمارس اكاذيبه ثم يعود أدراجه إلى حيث وطنه الأصلي..
ثالثاً:- ويبدو ان تمثيلة قرار المحكمة الذي سمح بموجبة للمتدينين الإسرائيليين بالصلاة في باحات المسجد الأقصى ستكون الفتيل الموسمي للمواجهات الدامية بين الفلسطينيين في ذكرى نكبة احتلال فلسطين، والمتدينين الإسرائيليين الذين سيسعون جاهدين لهدم الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم وسيؤمن ذلك الوقود الجماهيري اللازم لاستمرار المقاومة بكل اشكالها.. وعلى المدى البعيد هذا يتهدد وجود كيان الاحتلال الإسرائيلي غير المستقر.
وتفسيراً لموقف المقاومة إزاء ما جرى يوم أمس ومن خلال رسائلها الموجهة للشعب الفلسطيني، فقد توخت قيادتها الحيطة والحذر إزاء نوعية الرد، واستجابت تكتيكياً لهذا التراجع الإسرائيلي النسبي وامتنعت مؤقتاً عن الرد لإفساح المجال للجماهير الفلسطينية كي تقيم دفاعاتها الذاتية من خلال انتفاضة شاملة، والتصدي لقطعان المستوطنين المدعومة من المحكمة الإسرائيلية، وتحت غطاء أمني، بهدف تحقيق أهداف حكومة بنيت الرامية إلى إرضاء اليمين الإسرائيلي المتنفذ، وإنقاذ حكومته المترنحة، وتحييد العمق الإسرائيلي من ضربة صاروخية موجعة كانت تتوعد بها المقاومة، ولا يستبعد من أن تسهم في إسقاط حكومة الاحتلال.
ورغم كل ذلك فإن الاحتلال بكل طاقاته لم يعد قادراً على الدخول إلى عقل المقاومة لدراسة استراتيجيتها ومدى ارتباطها بالتداعيات الإقليمية التي بدأت تحكم الخناق على أطول احتلال في العالم، يمارس التطهير العرقي في وضح النهار، فيما يجد صعوبة اشد في التعامل مع اليمين الإسرائيلي المتشدد الذي يرفض ربط ساعته بتوقيت الحكومة، سائراً في دروب أوهامه فلا يجد من صاحب الحق إلا مقاومة لا تلين.