صدر عن دار زهدي للنشر والتوزيع، بدعم من وزارة الثقافة، رواية بعنوان "حفيد التراب”، للدكتور محمد رفيق حمدان.
في مقدمته للكتاب، يقول الدكتور حمدان، إن الرواة يحرصون على الاحتفاظ بالقوالب التقليدية لأعمالهم والتقيد بعناصرها ذات الصلة بالمكان والزمان والعقدة والشخوص وضبط الحوار وإتقان الحبكة تحت مظلة الخيال المحكوم بالأسلوب واللغة أملا بتوصيل رسالة إلى القارئ.
ويشير إلى أن أحداث هذه الرواية جرت في قاعات ندوات دار الثقافة والمؤسسات الرسمية والأهلية في المدينة وفي مساحات مفتوحة لضمان البعد الروائي في حركة الصورة البصرية، حيثما سمح الظرف بذلك في عصر ما قبل "كورونا”.
وتقوم الرواية على مساحة واسعة من التفاعل الفكري والمعرفي بين أبطال الجولات الحوارية بنفس روائي "بوليفوني”، وفق نهج الناقد الروسي ميخائيل باختين، لافتا إلى أن مصطلح البوليفوتية اشتق من فن الموسيقا المتعدد الأصوات، وتم تطبيقه في مجال الأدب، وهكذا فالرواية البوليفونية هي تلك الرواية التي تتعدد وتختلف فيها الأصوات واللغات والشخصيات المتحاورة، وتختلف تبعا لذلك آراؤها الأيديولوجية في جو ديمقراطي تتحرر فيه إلى حد بعيد من سلطة الراوي وأحادية المنظور.
وفي هذه الرواية، تحتفظ كل شخصية بمنظورها الخاص ضمن الحدث الروائي، ليتم بذلك طرح الرواية عبر شبكة من الأصوات، ما يمنح القارئ حرية اختيار الموقف المناسب وانتقاء المنظور الأيديولوجي الذي يوافقه دون استسلامه لسلطة الكاتب أو شخصيات الرواية.
ويشير المؤلف إلى أن "باختين”، يوضح فلسفته النقدية باستعراض نماذج أدبية من ضمنها أعمال الروائي الروسي الشهير دويستفسكي، ومن منطقتنا العربية جاءت أعمال الأديب المغربي محمد برادة مثالا على ذلك، مبينا أن شخوص الرواية تعد بمثابة عينة عشوائية ممثلة للجتمع، فمنهم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والإنسان العادي البسيط، والمتعلم والمثقف والمنفتح، ومنهم المتدين واليساري، يتحاورون بحرية مطلقة وبتناغم كامل بغض النظر عن مدى التطابق أو التنافر في الآراء تتنوع اللغة بين النثر والشعر والفصحى، والفصحى الميسرة.
ويقول، إن هذه الرواية جاءت في سياق ثقافي رفيع المستوى ضمن إطار علمي لم يهجر الروح الروائية التي يجد فيها القارئ المثقف نفسه بين الحروف وعلى ناصية الفقرات ليعلن بذلك انتماءه لجمهوره المتحاورين، وأن المادة التي ينتقيها هي أحد معالم هويته الإنسانية والثقافية وخريطته الفكرية، وقد سمح هذا الحوار بأن يغوص القارئ مع أبطال الحوارية في أعماق النفس البشرية التي تقيم حقيقتها على التناظر والتباين الطبيعيين.
وعن بطل الرواية، يبين المؤلف أنه أدرك "حجر بن تراب”، أن مشكلة الأمة متجذرة في خلل المنظومة التربوية وما ترتب عليها من فجوة المعرفة والوعي وارتباطها بقضية الإنتاج والتنمية بإطارها العام، وتفاعل معها بحكم مقتضاتها، اعتقد بضرورة إعادة هيكلة كامل النظام التربوي كأسس لتمكين الناشئة وتحقيق طموحات الأمة.
ويشير إلى أنه وثق بالمخزون المعرفي لدى القارئ واحترام طاقته في محاكمة الآراء والمواقف في طرحه لبعض القضايا دون أن يعود بذاكرته بالضرورة إلى أساسياتها الفكرية أو العلمية بحكم الغاية، مؤكدا أنه في هذا العمل احترم عقل القارئ عندما فتح عقله وقلبه لشخوص الرواية ليصبحوا مع بطل الحوارية، حجر بن تراب، أبطالا حقيقيين على قدم المساواة ليمثلوا بذلك مجتمعا واعيا بغض النظر عن مصدر ثقافتهم ومعرفتهم.
ويرى المؤلف أنه من سنن الشعوب أن تمجد أبطالها وتمنحها الثقة اللامحدودة، إلا أن هؤلاء الأبطال ومنهم بطل روايتنا، بشر مثلنا لهم عواطفهم وفيهم نقاط ضعف وقوة، وإن كنا لا نعترف بضعفهم، وذلك لارتفاع منزلتهم في نفوسنا، ما يستدعي منا التفهم والتسامح، وينطبق هذا على تعاملنا مع بعضنا بعضا لنعطي أنفسنا هامشا للخطأ دون أن نقع بالصدمة والدهشة وسحب سيف العقوبة من غمده في حالات الخطأ غير المتوقع من طرف أي شخص نجله.
ويوضح أن هذه الحوارية تتناول قضايا ثقافية وإنسانية ذات صلة بحياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية بأسلوب أدبي يقوم على نقاش منظومة القضايا والقيم التي انتابها بعض التآكل والتشوه، واشتاقت أرواحنا لاستعادة كريمها ونبيلها. قد ظن البعض أن فهم هذه الأمور من البديهيات ولا داعي لفتح ملف أي منها للتعرف عليها لتكون المفاجأة مذهلة عندما نشتبك مع أحد هذه العناصر لنقف عندها على مدى قربنا أو بعدنا عن هذه "البديهيات”. ويشير المؤلف إلى أبرز القيم المكونة لهويتنا الثقافية والمطلوب تمحيصها وصيانتها هي "قضايا الثقافة والتربية والفكر والحرية والحب وطبائع الكبر والحسد والغيرة ولغة الجسد والفراسة والكذب والبخل والشجاعة والطاقة الإيجابية والطاقة السلبية والإعلام”، وبجانب هذه المحاور، تم تناول قضايا علمية وفكرية شغلت البشرية طويلا كظاهرة الزمن من منظور النظرية النسبية وقضية الماركسية في قناعة أتباعها وفهم أهل الإيمان لها.
ويقول، إن الرواية تتناول ظاهرة فشل القيادات السياسية في ضمان حركة الأجيال في القيادة، وهي عمل بطلنا مع رفاقه على نقاشها وشرحها وفهمها وتصويبها وإعادة الاعتبار لها كمتطلب سابق لتصويب ما تشوه منها، وإعادة توظيفها الصحيح في وجداننا الإنساني والوطني كمكون ثقافي أساسي.
ويبين أن بطل الرواية حجر بن تراب مثله كمثل أي إنسان فينا نذر نفسه للدفاع عن الأمة وقضاياها العادلة، ونصرة الفقراء وإنصاف المظلومين، ونفخ روح الحرية والأمل والعلم في نفوس أبنائها لتحقيق الرخاء والعدالة، موضحا أن حجر بن تراب رفض القوانين الظالمة والتقاليد البالية الخالية من أي معنى إنساني وثار على كل تقاليد المجتمع التي لا تحمل أي مضمون يغذي عقول وقلوب وأمعاء أبناء الأمة.
ويقول، عندما تبرأ حجر من كل هذه القيم ليغرس بدلا منها ما يعد حقيقة عن ضمير أمته وكافح بكل طاقته الإيجابية لمصلحة بني جلدته دون النظر إلى حساب الربح والخسارة، فهو كتلة من المبادئ ونسيج من القيم والمثل الإنسانية، لا يلين ولا يستكين إلا أن ينصر قضية ويناضل من أجلها ولا يتردد في ذلك كمن لا يفرق بين الموت والحياة ما دامت غايته شريفة ومشتقة من رحم الأمة ومعاناة أبنائها.
في لحظة ضعف، استجاب بطلنا لمغريات الحياة فانغمس فيها في غفلة عن ضميره وبدأ كما لو تنصل من سباق مبادئه التي آمن بها وناضل من أجلها.
وينبه المؤلف إلى أن حجر في لحظة ما شعر أنه هدف لكل أسلحة ضميره الجارحة التي لم يعد قادرا لحظة واحدة على مقاومتها، أدرك أنه هناك في غير مكانه فقرر الانسحاب والتخلي عن كل مظاهر النعيم التي جرته إلى هذا الفخ، والعودة إلى موقعه الحقيقي بين الفقراء والمظلومين دون مراسم وداع. كما تناول العمل ظاهرة فشل القيادات السياسية في ضمان حركة الأجيال في القيادة.
وقد يتبين للمتابع للحركة التاريخية للأمم ظهور قيادات بقياسات مختلفة من الكفاءة والإخلاص وحسن السيرة، وقد يتمتعون بمحبة وولاء شعوبهم لهم، ولكنهم يركزون أثناء حكمهم على ترسيخ سلطتهم وكأن الدهر يدور حسب أهوائهم، ولا يعملون على تعزيز مستقبل أمتهم وتحضيرها لفترة ما بعد ولايتهم.
فإذا اختفت هذه القيادات لسبب أو لآخر من مسرح الأحداث ذابت آثارها كما لو كانت كتلة من الثلج لتستشري مع ذلك مظاهر الفوضى والفساد، ولذلك رأى صاحبنا ضرورة ضمان حركة الأجيال التي تحمل الفكر الوطني وتقود عملية التقدم والتطور بجدارة.
أيقن البطل أن كل أصحابه ودون استثناء أصبحوا ليس مجرد اسم جمعي لمعلمهم حجر، بل صخور تبني عليها الأمة مستقبلها بطمأنينة وأمان سواء بقي القائد أم اختفى. وقرر البطل الانسحاب من مسرح الحدث وهو في عز قدرته ليفسح المجال أمام الأجيال للعمل باستقلالية وكفاءة ومسؤولية واقتدار.