السياسة التي تنتظر نتائج الحروب المدمرة دون أن تمتلك البدائل الممكنة فتتقدم بمبادرات سلمية ستكون عقيمة بلا فائدة، ففي المحصلة فإن الغاية من الحروب هي جمع الأوراق الاستراتيجية ووضعها على طاولة المفاوضات للحصول على مكاسب أكبر؛ من هنا يمكن تفسير الإعلان الروسي عن احتمالية جلوس امريكا وروسيا على طاولة المفاوضات في مصر يكون الظاهر منها تناول الملف النووي بين البلدين فيما سيتعلق الأمر باطنياً بتفاصيل الحل السلمي الذي من شانه وضع حد للمواجهات بين روسيا الاتحادية والناتو في الحرب الاوكرانية ومنع استفحال الحرب إلى مواجهات نووية.
ويبدو أن اتهام روسيا لبريطانيا الحليف الأمريكي الأهم بالوقوف وراء الهجوم على الأسطول الروسي سوف يعجل من هذه الصفقة السرية التي رشحت أخبارها إذْ تبدًّتْ ملامحها ميدانياً بالإنسحاب الروسي من غرب نهر دنوبير في خيرسون مقابل السلام والحصول على اعترافٍ غربيٍّ أوكرانيٍّ بباقي الأراضي التي ضُمَّتْ لروسيا الاتحادية وفك الحصار الاقتصادي الذي يطوق الدب الروسي وقد ضاق ذرعاً بذلك، والذي انعكس سلبياً على اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي دون أن تترك اثراً سلبياً كبيراً على موسكو.
زيلينسكي من جهته لم يُعَلمْ بالأمر بل فوجئ بالانسحاب الروسي التام الذي بدأت أولى مراحله بإجلاء أكبر عدد ممكن من المواطنين الراغبين بمغادرة خيرسون استجابة لطلب القوات الروسية، وسحب المعدات العسكرية والجنود إلى الضفة الشرقية للنهر وإعادة انتشارهم هناك.
ولصعوبة تنفيذ خطة الانسحاب العسكري من غرب النهر في غضون أيام فإن نجاح هذه المهمة الضخمة من حيث العدة والعتاد والتقنيات اللوجستية؛ يؤكد على أن الانسحاب قد بدأ سراً قبل أكثر من أسبوع وباتفاق ضمني غير معلن مع الأمريكيين-كما يبدو- دون أن تكتشف المخابرات الأوكرانية ذلك فيما حجبت المخابرات الأمريكية بكل تقنياتها أخبار العملية عن الأوكرانيين حتى لا يباغتوا الروسيين بهجوم مضاد فينفرط الاتفاق.
وجراء هذا الاتفاق "المحتمل" ومن باب حسن النية، امتنعت الولايات المتحدة عن تزويد أوكرانيا بالسلاح النوعي مثل الصواريخ البالستية وطائرة ف 16، وإيقاف صفقة طائرات "إم كيو 1 سي غري إيغل"، التي تتميز بقدرتها على الطيران لمسافات أطول، وباستطاعتها حمل أسلحة عالية الوزن مقارنة بالمسيّرات التي يستخدمها الجيش الأوكراني حاليا في معاركه مع الجيش الروسي. وهو تفسير منطقي للموقف الأمريكي الأخير غير المتحمس لدعم أوكرانيا والذي يرجح حصول مفاوضات محتملة من باب إطلاق بالونات الاختبار قبل الإعلان عن تفاصيل الصفقة الروسية الأمريكية .
إزاء ذلك أعلنت روسيا ظاهرياً بأن مفاوضات مباشرة بين أمريكا وروسيا حول الملف النووي بين البلدين ستبدأ قريباً في مصر، بينما تم حجب الحديث عن المفاوضات السلمية إلى حين الإعلان الرسمي عنها لضمان نجاحها دون حدوث مفاجأت غير سارة من قبل النظام الأوكراني، الذي سوف يفرض عليه الأمريكيون تنازلات كبيرة بدأت بإعلان زيلينسكي بقبوله الجلوس على طاولة المفاوضات مع روسيا بشروط أقل حدة؛ كي ينهي الحرب مع روسيا.. من ضمنها تجرع العلقم بالاعتراف بالأراضي الأكرانية التي ضمت إلى الاتحاد الروسي للجم الخيار النووي لدى الروسيين والذي ازداد التلويح به بعد اتهام موسكو لبريطانيا بالهجوم على الأسطول الروسي في القرم، والتخلي الغربي التدريجي عن دعم أوكرانيا بسبب الظروف المتردية التي أرغمت الأوروبيين على مراجعة حساباتهم إزاء الدعم الأوكراني وخاصة مع نقص الطاقة في ظل الدخول في شتاء لا يمكن احتماله.
وكأن لسان حالهم يقول للرئيس الأوكراني المتشدد زلنيسكي " طفح الكيل وكفاك استغلالاً للقارة العجوز التي أنهكها التضخم فلم تعد تحتمل وعليك التوافق مع اية شروط روسية لمنع حرب نووية ضروس محتملة من النشوب في عالم سوف يباد في ساعات.