وأخيراً أغلق نصر الله المنافذ على توقعات الجماهير والمراقبين لموقفه من المجازر التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي في غزة والتي كانت تميل إلى المشاركة الميدانية الكاملة.. وذلك في خطابه التحليلي الذي وجهه إلى العالم في أول ظهور له منذ سبع سنوات، مساء اليوم الجمعة، بمناسبة الاحتفال التكريمي الذي أقامه حزب الله لإحياء ذكرى الشهداء.
صحيح أن مستوى خطاب نصر الله الذي انتظرناه طويلاً جاء أقل من المتوقع فيما يتعلق بالرد على جرائم الاحتلال في غزة؛ لكنه قال الكثير بنفس تحريضي كان من شأنه رفع معنويات الجماهير العربية وتأجيج رهاب المقاومة في قلوب الإسرائيليين.
فخطابه لم يتضمن قرار إعلان حرب بالمشاركة الكاملة ضد جيش الاحتلال؛ بل جاء ليدافع عن موقف الحزب المساند للمقاومة في غزة من خلال فتح الجبهة الشمالية بحذر شديد، مع الأخذ بالحسبان دقة الحسابات اللبنانية الصعبة وحساسيتها في هذا الاتجاه.
ولولا أن واجب المشاركة الميدانية مع المقاومة في تصدّيها للهجوم الإسرائيلي البربري على غزة، يقع على عاتق أجهزة أمن سلطة أوسلو بالدرجة الأولى، والتي قوامها 60 ألف عنصر فلسطيني مدرب ومدجج بالسلاح، تلك الأجهزة التي تنسق أمياً مع الاحتلال والمسخرة لحماية المستوطنات دون أن تنبري للدفاع عن الفلسطينيين في الضفة الغربية المنتهكة.. فلولا ذلك التقصير الفلسطيني لقلنا بأن حزب الله قصر كثيراً؛ لكن العتب على قدر الثقة الكبيرة الممنوحة لحسن نصر الله الذي "إذا قال فعل". ناهيك عمّا كان يصرح به قادة محور المقاومة في كل مناسبة في أن وحدة الساحات هي ميدان مشتركن وليس متجزئاً ما بين مشارك، ومساند، أو محايد.
إذ تستحق غزة التي تتعرض لتطهير عرقي من قبل جيش همجي متوحش؛ أكثر مما قيل في الخطاب الذي اتخذ صفة التوصيف للمشهد الراهن في الجبهة الشمالية، والدفاع عن حجم إسناد الحزب للمقاومة في غزة، من خلال إشغال ثلث جيش الاحتلال في الجبهة الشمالية، وبالتالي تخفيف الضغط على غزة.
وإن قرار الحرب ضد الاحتلال اتخذه حزب الله منذ الثامن من أكتوبر ، في اليوم الثاني من عملية طوفان الأقصى؛ لكن نصر الله في خطابه أيضاً وضع النقاط على الحروف، ملجماً كل التكهنات فيما يتعلق بمستوى التفاعل الميداني في الجبهة الشمالية مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضمن حسابات ومتطلبات وحدة الساحات، من خلال الإقرار بأن حزب الله جهة مساندة للمقاومة في غزة وليست مشاركة بالكامل.
ياتي ذلك في ظل حساسية الوضع اللبناني المزري، وخشية تعرض حزب الله لضربات انتقامية يكون من شأنها لو تمت، تدمير لبنان، كما جرى في تموز 2006، وبالتالي إخراج حزب الله من المشهد السياسي اللبناني في ظل المعادلة اللبنانية غير المستقرة.
مع أن تهديدات الخصوم -في الداخل والخارج- من هذا المصير الغامض لا يخيف الحزب المتماسك القوي كما يستشف من اللهجة الخطابية التي سادت خطاب نصر الله، حتى لو تعرض الحزب لعدوان من قبل البوارج البحرية الأمريكية المتمركزة قبالة سواحل لبنان وصولاً إلى ميناء حيفا.. والتي جاءت لمنع التوسع الميداني في حرب غزة، وبالتالي حَصْر التركيز الإسرائيلي على أهداف الحرب التي وصفها نصر الله بالمستحيلة.
وقد فند نصر الله مزاعم الخصوم والإعلام المجير للاحتلال الذي يحاول خلط الأوراق الإقليمية من خلال اتهام إيران بتوريط حماس في عملية طوفان الأقصى، معلناً بأن القرار كان فلسطينياً بامتياز وتحديداً من قبل حركة حماس وجناحها العسكري.
وكان من حرص كتائب القسام البالغ على إنجاح العملية أن أخفت تفاصيلها عن الجميع ومنهم حزب الله وإيران.
وربما كان هذا السلوك من أهم اسباب نجاح العملية الاستثنائية التي أصابت قادة "إسرائيل" بالجنون.
منوهاً نصر الله في خطابه إلى أن جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين التي اقترفتها حكومة يمينية متطرفة يقودها نتنياهو، هي نفسها التي قتلت المئات من المستوطنين إبان عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر وفق اعترافات إسرائيليين شهدوا الواقعة، وهي غير آبهة بأسراها.
حيث وصف نصرُ الله رئيسَ الحكومة الإسرائيلية ب"الغبي"، كونه لم يتعلم من دروس التاريخ -على نحو- أن المقاومة فكرة موروثة لا توأد بقوة السلاح.. مذكراً كيف طردت المقاومةُ جيشَ الاحتلال من لبنان في تجارب سابقة. وكيف هزمته المقاومة في غزة في عدة جولات.. مؤكداً بأن المقاومة إذا تعسّر عليها النصر، لظروف فوق طاقتها، فيكفيها تسجيل النقاط على جيش الاحتلال؛ لأن إجلاءه يحتاج إلى صبر طويل.
وقد تضمن خطابه عدة نقاط على نحو أن معركة طوفان الأقصى أصبحت ممتدة في أكثر من ساحة واحتمالية توسعها إقليمياً وارده وأن الحزب قد يطور موقفه في ذلك الاتجاه.
لقد استهل نصر الله في خطابه تقديم واجب العزاء لأهالي قطاع غزة بشهـداء معركة طوفان الأقصى.. مذكراً بأنهم خاضوا معركة كاملة الشرعية من الناحية الإنسانية.. حيث سمع العالم كلمات عوائل الشهـداء التي تعبر عن الثبات والالتفاف حول مقاومتهم المظفرة.
إنه شعب "غزة" الذي ما يزال يقدم الكثير دفاعاً عن حقوقه المشروعة.. منوهاً في خطابه إلى أن طوفان الأقصى أعادت طرح القضية الفلسطينية على العالم بقوة وفتحت الملفات الإنسانية المهملة.
وتطرق في سياق كلمته إلى ما يقترفه الاحتلال من انتهاكات بحق الفلسطينيين من خلال تنفيذ مشاريع استيطانية جديدة في الضفة الغربية.
ومن ثم الإشارة بأن هناك في غزة أكثر من مليوني إنسان يعيشون في حصار خانق.. ناهيك عن الانتهاكات التي يتعرض لها المسجد الأقصى غير المسبوقة.
وتطرق نصر الله في كلمته إلى ملف الأسرى وكيف أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة شددت على آلاف الأسرى وعائلاتهم في السجون الإسرائيلية.
ثم أنهى حديثه واصفاً الدور الأمريكي في تأجيج الصراع في منطقتنا العربية بدءاً من اليمن، والعراق، ولبنان، وفلسطين من خلال قيادة الهجوم على غزة في حرب تطهيرة كان جيش الاحتلال أداتها.
وكأن نصر الله يوحي بأن جيش الاحتلال الذي هُزِمَ معنوياً وكُسِرَتْ هيبته، غير مؤهل لقيادة حربٍ شرسة ضد غزة دون تلقي الدعم السياسي والعسكري والتقني من قبل أمريكا.