عمان وطن احتضن أنفاسي الصغيرة حيث المهد ، يرضعني الحب الانتماء وقيم الشرف والبطولة ، يغذيني بالفكر والحضارة والاخلاق ، يسقيني ماء الحياة وينير بقمره طريق حياتي ، ويضمد جراح سنيني فصار قبلتي ، وصرت وجها من وجوه اشراقاته ، فأينما رحلت عنه للتعليم او السياحة أعود شوقا ولهفة لحضن أم رؤوم طالما احتضتني ودفئتني في شتاء ليل قارس البرودة .
عمان وطن أسكنه ويسكنني فيه تعلمت بالقلم وكتبت بالقلم ورسمت الطير يرفرف بالسلام وغصن الزيتون ، ترعرعت في منبته الطاهر فحفظني وصان كرامتي وصقل عقلي وغذى وجداني بكل آيات الجمال الخلاب في طبيعته الجغرافية ، وبكل تجليات ميراثه الحضاري وشواهده التاريخية والأثرية .
ذاكراتي الانسانية هي ذاكرة عمان حيث الطفولة البريئة الطاهرة ، بحواريها وشوارعها الرئيسة ، بمدارسها ومبدعيها ، بمناطقها الأثرية الشامخة والشاهدة على عظمتها عبر الاجيال .
عمان ومهد الطفولة
ولدت في مدينة الحسين الطبية على يد الطبيب الماهر الأصيل عارف البطاينة و كانت أسرتي تسكن بأحد احياء عمان في الدوار الرابع في سني عمري الاولى بجوار مسجد صلاح الدين ، و الجيران كانوا أقرب الى الأهل من عائلات طيبة و أصيلة و محترمة عائلة ابو الراغب و عصفور وشعبان والعطيات والطراونة والشعلان والملقي والساكت والشرفا ، و البطيخي
تربيت وسط هذه العائلات العريقه المحترمة حيث كانت الجيران مثل الاهل يتزاورون و يتبادلون اخبارهم اليومية و تجلس والدتي بينهم و نحن نسترق السمع إلى احاديث الجدة ام زهير عصفور و السيدة الاصيلة أم مشهور الفايز و السيدة الفاضلة ام عمار البطيخي
كنت اصغر من ان استوعب اي شيء و لكن اكتشفت ان العقل يسجل و يخزن و يعيد البث لاحقا
اتذكر العم هاني الصغير الرجل الطيب المحترم الذي كان يمتلك متجر القطمون الذي كنت اذهب اليه يوميا و ربما عدة مرات
ذاك الرجل النضيف الذي كان ينصحنا بعدم المبالغة بالشراء حفاظا على أموالنا و نحن أطفال
وبعمر ثلاث سنوات انتقلنا للعيش بنفس المنطقه في الحي المقابل لبيتنا القديم بأحد شوارع عمان الرئيسية بجانب رئاسة الوزراء وعشت به مرحلة الروضة إلى ان انهيت دراستي كاملة في مدرسة راهبات الوردية ، حيث الشوارع هادئة تخلو من الازدحام وتكدس السيارات مقارنة بحالها اليوم . و في اجواء الصيف و العطلات لا تسمع في حينا أصوات إلا بائع الكعك مناديا كعك كعك او بياع الحمص الاخضر المسمى بالعامية الأردنية حاملة و قد كان البائع المتجول ينادي حاملة يا ملانة
و بالشتاء عربة الذرة المسلوق المتجولة التي كنت انتظرها بشغف
اما الأقرب الى أذني كان صوت المزمار (الصفارة) التي كانت تغرد من بعيد و انطلق انا كالصاروخ لأشتري شعر البنات
كل هذا في حي من اهم احياء الأردن و اكثرها اناقة و رقي و لكن الناس كانت طيبة و بسيطة و كما يقال على البركة
و كان قريب من المنزل جسر رئاسة الوزراء الذي كنت امر منه كل يوم في طريق العودة الى المنزل من المدرسة و قد كان هذا الشارع يوم الخميس مثل المسرح يتجمع الناس به يرقصون و يغنون و يأتي
البهلوان الذي يرقص القرود
كنت صغيرة جدا لكنني اتذكر حتى صديقتي القطة ريما التي دهستها سيارة و لكن جدي الطبيب استطاع ان يعالجها و عادت بصحة جيدة
كانت ليالي الشتاء تحف بروائح جميلة مختلطة في بعضها رائحة الكستناء على الحطب
، وشاي الميرمية ، والجهنمية والخبيزة ، والسنابل الذهبية ، والدحنون الذي كنا نلتقطه من الحقول ،ووردة الأمنيات التي كنا ننفخها بالهواء لتطير و تجلب لنا الأمنيات
و في الصيف و الربيع كانت
رحلاتنا الى وادي شعيب و الأغوار و البحر الميت مع أهلي والتجوال بعمان سيرا على الأقدام مع صديقاتي دون تعب أو خوف ، ونادي السيارات الملكي الأردني الذي شهد طفولتي و خاصة في عطلة الصيف .
دراستي بالراهبات الوردية كانت من أمتع سنين حياتي ، لأنها علمتني فنون الحياة من منظور أخلاقي وعملي بنفس الوقت ، وكانت الراهبات تفتخر ببناتهن وطريقة تربيتهن على القيم والأخلاق و شحذ طاقتهن بالأمل والعمل والعلم والاعتماد على الذات وتحقيق الطموح بسلاح المثابرة والصبر .
كان في فصلي أربعين بنت والمناخ السائد علمني التعايش والوئام واتخاذ هؤلاء الأربعين اخوات لي وامتدت علاقتنا الاخوية والانسانية مع مرور الزمن و لحد الان برغم اختلاف طبيعة اعمالنا وأنماط حياتنا. فقد تشربت قيمة الترابط الأخوي والألفة الإنسانية والعشرة الطيبة التي جعلتني انسانة اجتماعية محبة للناس ومقبلة عليهم .
ذاكرة المكان
دفتر الذكريات مشحون بكل ما هو مبدع وجميل ، تستحضره روحي وعقلي عندما أسافر خارج الأردن ، ويأخذني الحنين لبائع الفستق في قلب عمان ، عمر محمد حمزة الملقب بـ "ابي احمد" رحمه ، هذا الرجل كان رمزا من رموز عمان بعد ان ظل لأكثر من نصف قرن وهو يبيع الفستق الساخن والطازج لجمهوره من الأردنيين والسياح العرب والأجانب بشارع الملك فيصل عند مدخل سوق الصاغة والذهب . فمذاق الفستق الساخن عنده نتذوقه بنكهة عبق التاريخ والزمن الجميل الذي لا يفارق مخيلتنا .
ذاكرة المكان في عمان محفورة بأعماقي منذ الطفولة المبكرة ، وأشتم منها روائح الزمن الجميل ، حينما كانت تصطحبني جدتي لشراء بعض الخواتم والحلي من سوق الصاغة ، أو لشراء الهدايا ، فأتأمل بعيون الطفولة المقاهي الشعبية ومتحف آرمات فوق مقهي السنترال ومقهي كوكب الشرق ، والمحال العتيقة لحياكة القمصان والبيجامات ، وأشاهد الفنادق والبنوك والصرافة ، أتوقف عند كشك أبو حسين للثقافة فأوقف أمي لشراء قصص الأطفال و مجلة ماجد و مجلة حاتم و بعض الكتب التي صارت عندما شبيت عن الطوق زادي وزوادي .
قبلة الجمال
حبي للسفر والسياحة والترحال جعلني أجوب مناطق عديدة بالعالم شرقا وغربا ، ولكني لم أجد أجمل من الأردن قبلة للجمال والعراقة والتاريخ ، فهي أول ما رأت عيني وتنفست رئتاي واشتمت درتها وخطيت أول خطوة بعمري على هذه الأرض المباركة التي وصفها الله تعالى في ليلة الاسراء بقوله " سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام الي المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " أي فلسطين والأردن .
فهي موطن للهداية الربانية ، كما كانت للحضارات القديمة البيزنطية والرومانية ، وصارت من أهم المدن الفنية والثقافية في الشرق الأوسط بعصرنا الحديث .
فالطبيعة الجبلية لمدينة عمان وبنائها بالحجر الأبيض أكسبها خصوصية حضارية وجمالية قلما نجد نظيره في مدن العالم .
وبسبب عمان عشقت التاريخ و الآثار ، فتاريخها يعود إلى الألف السابع قبل الميلاد ، مما جعلها من أقدم مدن العالم بالسكان ، وقد أقيمت على أنقاض مدينة " ربة عمون " ، و " فيلاديفيا " .
فعمان مدينتي الجميلة ومعشوقتي الحبيبة تسرقني من نفسي عندما أشاهد تلالها ، فهي مدينة التلال السبع بجبالها السبع هي : جبل الويبدة ، وجبل عمان ، وجبل الحسين ، وجبل النصر ، وجبل التاج ، وجبل القلعة ، وجبل الجوفة .
وعندما تنازعني الآلام بسبب الصراعات والحروب في منطقتنا العربية أو أي منطقة من العالم ، فألوذ الى المناطق الأثرية الكثيرة المتنوعة التي تعج بها مدينة عمان ، أتجول بها تنفيسا وحبا وعشقا لهذا التاريخ التليد ، وأشبع هوايتي بالجولات الثقافية والأثرية ليس لها مثيل الا في عمان .
فهي أشبه بمتحف يضم كل العصور تعرض فيه كنوز تراثية لكل الحضارات القديمة والأديان السماوية من مساجد كالمسجد الحسيني بطرازه المعماري العثماني. والكنائس العتيقة.
كذلك الكنائس والأطلال الباقية من الأسواق القديمة بألوانها المفرحة ، وبقايا المعالم الرومانية والبيزنطية ، فموقع جبل القلعة يجرني لزمن ما قبل الميلاد حيث بقايا جبل القلعة معبد هرقل الذي بني بين 161 و 166 قبل الميلاد .
جبل القلعة الذي يقع في وسط عمان ، من أهم المواقع الأثرية والتاريخية بالأردن ، وجسرا لتعاقب عدة حضارات ، حيث اتخذه العمونيين مقراً لحكمهم ، ومن بعدهم اليونانيون ، والرومانيون ، والبيزنطيون ، و بني على قمته القصر الأموي ، وعثر به على أثار تعود لحضارات اليونانيون والبيزنطيون والعمونيون معا .
أسفل القلعة أمتع ناظري وعقلي بالأعمدة الكورنثية لسوق فيلادلفيا الروماني الأصلي والمنتدي المؤدي إلى المسرح الروماني ، الذي بني في عهد أنطونيوس بيوس 138- 161 ق . الميلاد
ومقابل قلعة عمان يزدهي المدرج الروماني على سفح جبل الجوفة شرق العاصمة .
وقرب المدرج الروماني أستريح قليلا لتناول الطعام والشراب بالساحة الهاشمية ، ثم أعاود السفر الى الزمن الجميل بزيارة متحف التقاليد الشعبية الذي يضم فسيفساء من القرن السادس ومجموعات من المجوهرات القديمة والأزياء التقليدية .
وكل يوم يكتشف علماء الآثار عن كنوز أثرية لا تقدر بثمن في عمان ومنها تماثيل "عين غزال " التي تعد من أقدم التماثيل البشرية بالعالم ، وتعكس تطور الشكل البشري.
فتعايش الحضارات والثقافات والأجناس بمدينة عمان ، جعلها موطنا للتلاقح الثقافي وفكر الوسيطة ، والتمازج بين المعطيات الحضارية في هارموني بديع نادرا ان نجد مثيله بالعالم ، وقد انعكس ذلك في التحضر والرقي الأخلاقي الذي يتمتع بها سكانها من رجولة وشهامة ومحافظة علي العادات والتقاليد الموروثة بنسق فكري وسطي لا يعرف التشدد وينفتح علي الحياة المدنية بروح وقلب المثقف الواعي ، فهنيئا لي ولسكان المدينة المعشوقة وزوارها بتجليات الجمال الانساني والتاريخي والحضاري ، وهي تجليات تصفي أرواحنا من أكدار الحياة وتجعلنا اكثر اقبالا عليها واستمتاعا بجمالها والدفاع عنها بأنفسنا وأرواحنا .