الشيطانُ ولو تحوّل إلى واعظٍ فهو لا يُبَدِّلَ طبيعته أبداً؛ بلْ يغيّر لغته المراوغة، التي يدسّ من خلالِها السُّمّ الزعافِ في الدَّسَمِ المُسَيِّلِ للعابِ المغبونين.
وهذا ينطبقُ على وعودِ جو بايدن في ممارسةِ الضغطِ السياسيِّ على "إسرائيل" التي أمعنتْ في تَوَرُّطِها في حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين في غزة، بذريعة أنها على أبواب الفصل الأخير منها، خلافاً للشواهد التي تؤكد فشلها منذ السابع من أكتوبر.
لذلك! - وفقاً لصحيفة "بوليتيكو" نقلا عن مسؤول أمريكي- فأن إدارة الرئيس جو بايدن علّقت شحناتِ القنابلِ الدقيقةِ من صنعِ شركة "بوينغ" والمخصصة ل"إسرائيل"، لبعث رسالة سياسية واضحة لها.
مع أن ما في حوزةِ "إسرائيل" من أسلحةٍ أمريكيةٍ فتاكةٍ تُعَدُّ كافيةً لإطالة أمد الحرب في غزة.
إذن إلامَ يشيرُ هذا القرار؟ إذْ ليس عصياً على الحصيفِ استنتاج الغاية من صفقاتِ الأسلحةِ المؤجلة! والتي من المؤكد أنها تُدَّخَرُ لإشعالِ الحرب المحتملة في الشمال مع حزب الله؛ بهدف تحقيق إستراتيجية "الصفر مشاكل"مع الجيران كنتيجة لحرب حاسمة باستخدام القوة المفرطة لاستئصال "السرطان المتمثل بتهديدات حزب الله"، أو ترسيخ قواعد اشتباك طويلة الأمد قد يكون من شأنها تحقيق الأمن والاستقرار لكيان الاحتلال الإسرائيليّ المُضَعْضَع، على الأمد الطويل؛ مع أنّ الرهان على ذلك يُعَدُّ درباً من جنون.
وعليه فلا ضير إذنْ بالنسبة لأمريكا من إيقاف الصفقة في الوقت الراهن، من باب المناورة السياسية فهي لغايات مستقبلية.
وليس خافياً على المراقبين من خلال ما يقال عبر الفضائيات، في أن حرب غزة برمتها وما تشهده من تصعيد عسكري، وصولاً إلى ذروتها في الهجوم الأخير على رفح، ما كان لها أن تستمر بدون التنسيق الشامل وعلى كافة المستويات مع إدارة البيت الأبيض، وقيادة البنتاغون، في تحالفٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ معلن؛ لخنق قطاع غزة وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من خلال حرب إبادة أدانتها محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي اجتثاث حماس وإخراجها من مشهدِ ما بعدَ الحربِ على غزة، ومن ثمّ ترتيب البيت الفلسطيني في ظلِّ الاحتلال الإسرائيلي باستخدامِ قواتِ الأمنِ التابعةِ لرئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج -وفق اتهامات حماس- المشرف على اتفاقية التنسيق الأمني مع الاحتلال، والمنخرط مع الأجندة الإسرائيلية، وقد ألقت حماس القبض في غزة مؤخراً على عشرات العناصر التابعة لفرج التي اعترفت بما أنيط بها من مهام تخريبية.
ولكن؛ هل تنجح جهود هذا التحالف في تحقيق أهدافه، أم أن الأمر برمته يمثل سقوط مدوٍي في فخ رفح الذي أعدت له المقاومة جيداً، ما شجعها على الثبات في موقفها الرافض لصفقة تبادل الأسرى التي وضعها الأمريكيون وفق الرؤية الإسرائيلية، إلى أن وافقت على المقترح المصري القطري المعدّل الذي رفضته "إسرائيل" مما سيضع نتنياهو في مواجهة صعبة مع أهالي الأسرى! وإظهاره بموقف اللامبالي بأبنائهم بدلالة قيامه بالهجوم على رفح قبل إبرام صفقة تبادل الأسرى التي شارفت على الحلّ.
وهو ما أظهر -أيضاً- كيف أن المقاومة في غزة باتت تتحكم بخيوط اللعبة، إلى جانب تمكنها -ولو عن غير قصد- من نقل تداعيات الحرب في غزة إلى قلب أمريكا وجامعاتها، والآخذة في التمدد إلى الجامعات الأوروبية بشكل دراماتيكي من منطلق تحول التجربة الغزّيّة إلى فكرة عالمية مُلْهِمَة للحرية وحقوق الإنسان.. الأمر الذي وضع واشنطن على مِحَكِّ أزمةٍ قد تقلب الموازين في الانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاد العم سام.
لهذا دعمت واشنطن قرار الهجوم الإسرائيلي على رفح، وبالتالي احتلال معبر رفح ضمن خطة أمريكية محكمة؛ وخلافاً للتصريحات الأمريكية المنافية لمثل هذا الاتفاق الضمني، فإن المراقب الحصيف للأحداث سيصل إلى نتيجة فحواها أن ما يقوم به التحالف الأمريكي الإسرائيلي يبتغي خنقاً ممنهجٍاً بطيئاً للقطاع، على اعتبار أن ارتدادات الحرب على غزة أدت إلى انتفاضة الجامعات الأمريكية، الأمر الذي وضع الولايات المتحدة في منطقة التماس المباشر مع قطاع غزة.
وهذا بدوره يفسر ما جاء في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في أن شركة أمن أمريكية خاصة ستتولى إدارة معبر رفح الحدودي مع مصر بعد نهاية العملية العسكرية في غزة التي يعتقد الاحتلال- واهماً- بأن الهجوم على رفح يُعَدُّ آخر فصولها.. دون الأخذ في الاعتبار بأن ذلك قد يدفع حماس لو بقيت في المشهد على المدى البعيد؛ لِتَبَنّي خياراتٍ مباغتةٍ على نحو إنعاش ما كان يعرف باقتصاد الأنفاق، وتلقي الدعم العسكري والتقني وتدفق الأموال عبر شبكة أنفاق أكثر تعقيداً من سابقتها، عبر الحدود المصرية مع غزة، فحماس وحلفائها من الفصائل العاملة في غزة، تحسن التفكير خارج الصندوق، وفي جعبتها الكثير لتفاجئ به العدو الإسرائيلي اليائس.
من جهتها فإن الظروف الشعبية بين الطرفين المصري والفلسطيني مهيأة لاحتضان مثل هذا الخيار الصعب وإنجاحه بشكل أو بآخر رغم وجود عقبة كأداء يصعب تذليلها متمثلة بمليشيات رجل الأعمال المصري (العرجاني).. الذي عينه الرئيس المصري السيسي في منصب رئيس القبائل العربية في سيناء.
ووفق قناة "i24NEWS" الإخبارية الإسرائيلية "يأتي تعيين العرجاني، لدعم جهود الاستقرار في سيناء".
والاستقرار يعني التنمية وتحقيق الأمن، سواء تَأَتَّى ذلك بالجهود السياسية الاجتماعية أو الأمنية التي تستوجب منه تزويد مليشياته بأسباب القوة والمنعة، وأهمها التسليح العسكري؛ لتمشيط سيناء أمنياً بعيداً عن توريط الجيش المصري في مهمات عسكرية مخالفة لاتفاقية كامب ديفيد المبرمة عام 1979.
حيث تتيح المعاهدة تعديل ترتيبات الأمن المتفق عليها بناء على طلب أحد الطرفين وباتفاقهما.. وقد يشكل العرجاني مخرجاً قانونياً من خلال الدور المنوط بمليشياته.. وبالتالي يتمكن من الوصول إلى منطقة التماس مع غزة المتمثلة بمحور فلادلفيا دون توريط الجيش المصري في ذلك، وهو المحور الاستراتيجي الواقع ضمن أهداف جيش الاحتلال لبسط السيطرة عليه؛ وهذا سيساعد في إحكام السيطرة على معابر تهريب السلاح إلى غزة مستقبلاً عبر سيناء، مع أن القيادة المصرية تُصِرُّ على أن العرجاني مجرد خيار تنموي!.
ونستنتج من كل ذلك، في أن توكيل شركة حماية أمريكية لإدارة معبر رفح وقيام الجيش الأمريكي بعمليات بناء ميناء بايدن المؤقت لتأمين المساعدات إلى غزة، يعني بأن أمريكا و"إسرائيل" سيتحكمان بمصير التنمية في غزة، وسوف يُخْضِعَانِها لسياسةٍ ابتزازية- كما هو الحال في الضفة الغربية- حتى لو وُزِّعَتْ المساعداتُ برعايةِ الأممِ المتحدة، وكأنه استحواذٌ للدورِ المَنُوْطِ بالأنوروا.. وهذا خطير جداً.
ولكن يرى مؤيدو المقاومةِ بأن هذهِ الحساباتِ عمياءُ، فهي ممكنةٌ نسبياً على المدى القريب كحالة طارئة؛ ولكنَّ معطياتِها منقوصةٌ في ظلِّ حربٍ تشير نتائجُها الأوّليةِ إلى عجز الاحتلال عن تحقيق أهدافِهِ، سوى ما يتعلق بتدمير قطاع غزة على رؤوس أهله، في سياق حربِ إبادةِ مُدَانَةٌ على صعيدٍ عالميّ.
ويبقى السؤالُ حاضراً بقوة، حول وظيفة "ميناء بايدن المؤقت" بعد أن تضعَ الحربُ أوزارَها؟
لقد كثر اللغط حولَ الأهدافِ الحقيقيةِ لمشروع الميناء، والتي تتجلى وفق مراقبين بما يلي:
أولاً:- إلغاء دور الأنوروا ومحاولة ضرب دورها التنموي في غزة تدريجياً، من خلال التواصل المباشر بين أمريكا والأمم المتحدة لإدارةِ المساعداتِ عبرَ ميناء بايدن المؤقت، في مسارٍ مستقل.
حيث قال اثنان من كبارِ المسؤولين الأميركيين لشبكةِ "سي إن إن" إن إدارة بايدن حصلت على اتفاق مع وكالةٍ رئيسيةٍ تابعةٍ للأممِ المتحدةِ؛ لتوزيعِ المساعداتِ من الميناء الذي يبنيه الجيش الأميركي قبالة ساحل غزة، وهو تطورٌ رئيسيٌّ لجهود أميركا بغية منع المجاعة المحتملة في غزة.
ثانياً:- تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين لفشل التهجير الكلي رغم حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل"، وذلك عبر البحر إلى المنافي، بعد أن أغلقت مصرُ خيارَ سيناء؛ لأسباب أمنية تتعلق بالأخوان المسلمين الذين يشكلون بالنسبة إليهم الخطرَ المتربص بنظام السيسي.
وتقول إحدى الفرضيات التي يتشدق بتفاصيلها خبراءُ عبرَ الفضائيات بأن تجهيزاتِ الميناءِ تشيرُ إلى كونِهِ يمثلُ "قاعدةً عسكريةً لواشنطن في القطاع" بهدف إيصالِ المساعداتِ لأهل غزةَ، أيضاً حماية المصالح الاقتصادية ذات العلاقة بحقل غاز "مارين" البحري قرب غزة.. ومن خلال عين الصقر الأكثر إحاطةٍ بتفاصيل المشهد عبر انْدِياحِ دوائِرِهِ إقليمياً، فأن الجهود الأمريكية في بناء الميناء الذي يبدو مؤقتاً، يتزامن مع سعي إيرانَ الداعمةِ لمحورِ المقاومة؛لإقامة قاعدةٍ مشابهةٍ في السودان على البحر الأحمر، بينما ما زالت موسكو تفكرُ بأحد سواحلِ اليمنِ كموطئ قدمٍ لها على البحر ذاتِه.
فحربُ غزة حُبلى بالمفاجآت، وأصبحتْ منطقةً تتقاطعُ فيها المصالحُ الدوليةُ على حسابِ القضيةِ الفلسطينيةِ التي باتتْ بكل تفاصيلها في عهدةِ المقاومةِ الموحدةِ في غزة، والتي عزلت "إسرائيل" دولياً، وتحظى بدعم محور المقاومة وشعوب العالم الحر، وتناور سياسياً باقتدار، مع أن فاتورةَ النصرِ الذي نتمناه باتت باهظة.
ولكنها لا تتنافى والمبدأ القائل في أن كلَّ من يسعى لنيلِ حقوقه المشروعة، عليه أن يُضحي بالغالي والرخيص.
اللهم أنصر غزة والضفة الغربية في حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي عليهما، لتشكلَ وصمةَ عارٍ على جبينِ الإنسانية، فالحربُ القذرةُ في غزة وضعتِ الضميرَ العالميَّ في اختبار هو الأصعبُ عبرَ التاريخ.