تلقيت دعوة كريمة من الراحل الكبير الملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين رحمه الله قبل احدى عشر سنةً وكان ذلك قبل وفاته بعامين. ذهبت للمملكة العربية السعودية العزيزة من أستراليا لأول مرة وقد كنت "ضيف الملك" هكذا سمعتها ممن استقبلني!. كان الحدث استثنائياً نادرًا كالحلم الذي لا يتكرر مرة اخرى. هي محطة سريعة مرت على عجل من محطات العمر التي أرادها الله وما سعيت لها ولا أعرف اي الدورب الموصلة لها وأنه لم يكن يقدر لي في ظاهر الغيب الا عن بياض في سريرتي وصفاء نيتي بأن أرى قوماً من كرام الناس طبعاً وسجية وأن اتمتع بحفاوة لقائهم وسماع أصواتهم التي يفوح منها عطر التاريخ والتي تعبر عن اصالة المملكة السعودية وشرف خدمة الحرمين الشريفين في أقدس بقاع الله على هذه المعمورة.
وصلت المطار مساءاً وكان الإستقبال كبيرا ومنظمًا… بدأ الترحيب الذي كان ممزوجًا برائحة العود والطيب ويدهشك المستقبلون بزيهم العربي بالثوب الابيض الذي يكسوهم وقارا وهيبة والمفقود في بلاد أخرى، كان كلامهم لطيفا متزنًا و كلمات ترحيبهم تشعرك بانهم الضيوف وانك رب المنزل ! صفات جميلة لمستها تندر في أيام الدنيا التي نعيشها الآن وتلك الصفات دفعتني للكتابة عن هؤلاء الكرام من الأمة ضمن مذكرات المهاجر واظنه الإحساس بالتقدير و شعور بالواجب لتضمين التجربة وانزال الناس منازلهم !.
من بداية الرحلة كان متاعي حقيبتين من استراليا غير ما أحمله من حقائب القلق التي ينوء بها كتفي في رحلة الحياة وقد أضعت واحدة منهن في احدى المطارات دون ان ادري فقد كنت اضع فيها اهم ما البسه واستخدمه: كان فيها أوراقي وعطرا أحبه وملابس تليق بالسلام على خادم الحرمين الشريفين كريم وحكيم العرب رحمه الله. بدأ الاستياء يتناوب على وجهي لعله خجل الموقف والحيرة فيما سافعله بعد عناء سفر طويل من آخر قارات العالم ساعات طويلة امضيتها بالتفكير بما سيحدث عند وصول الرحلة.
ملامح وجهي ليست على ما يرام وواضح عليها الكدر ولعل ضغط دمي ارتفع قليلا دون وعي مني مما لفت أنظار من استقبلني وسألوا عما أصابني فأجبتهم ما هي الا حقيبة سفر ضاعت! فقاموا بالبحث والإعلان عنها ويظهر أنني اشغلت المطار كله وسمعتهم يقولون "هذا ضيف الملك" فأي تكريم حظيه اليافع القادم من استراليا وما عساه ان يكتب او أن يعبر عما يرى بعيونه لا بما يسمع بأذنه. أحسست بأن كل ما ألمسه من تكريم هو تكريم لجميع الجالية العربية والإسلامية في الاغتراب.
تناسيت مسألة ضياع الحقيبة ولامني شيء بداخلي بأنه ما ينبغي لمثلي الحديث عن حقيبة ضائعة لأن هدف الزيارة للديار المقدسة ما هو الا تكريم محض إلا أنني عزيت أسباب الحديث عن ضياع الحقيبة قد يعود لنتاج الغربة الطويلة بأن لابد من مواجهة الحقائق وإن كانت مخجلة احيانا!
وصلت الى مكان الاقامة لاخذ قسط من الراحة بعد عناء السفر الطويل من استراليا لكن أحد المرافقين الكرام وببشاشة قال: نستأذنك بعد أن تضع الحقيبة المتبقية معك ان نذهب سوياً إلى مكان قريب في جولة قصيرة وطاوعتهم لاني اسير ضيافتهم وذهبنا إلى أفخم الاسواق في الديار وقالوا لدينا من الأوامر أن تختار ما يناسبك فأنت في بلاد الخير كله، وبالتأكيد تحتاج لإستعمال بعض الأغراض التي فقدت مع الحقيبة وقبلت خجلا امام ما قالوا وبدأت اختار ثلاثة او ربما اربعة اشياء فابتسم من رافقني وقال هذا لا يكفيك "طال عمرك" دعنا نتولى التفاصيل فاختاروا المتعارف عليه وغيره وإذ بحقيبة بحجم عده حقائب قد ملئت من ملابس واشياء أخرى واجمل ما فيها سجادة الصلاة الزرقاء التي احتفظت بها على مدار السنين .
المملكة العربية السعودية يظلها الله دائما بظلال السحاب لأن صوت الحق إنطلق من أرضها حتى ملأ سمّع الدنيا وبصرها ولذا الخير أصيل فيها وباق بإذن الله وفيض السحاب قد فاض بالعطاء شرقاً وغرباً وامتد بعيدا في كل صوب. القبلة هي القبلة حتى لو اكثر الوشاة من فلتات ألسنتهم ففي واقع الامر لا يتغير شيء يذكر لان صوت الحق باق هناك!. يتبع لاحقا من مذكرات المهاجر.