ما زالت دوائر الحرب التصعيدية بين جيش الاحتلال وحزب الله في سياق وحدة الساحات المساندة لغزة في انْدِياحٍ شديد، حتى تتوقف الحرب في غزة وفق شروط حزب الله.
وهو الهدف العصي على الفهم من قبل نتنياهو الذي تحيق به الأزمات من كل جانب، ولعل آخرها سيكون تهديد الكيان وجودياً من خلال تخبطه السياسي ومحاولات هروبه إلى الأمام.
وها هو يرتكب في جنوب لبنان جريمة نكراء من خلال تفجيرات أجهزة النداء "البيجر" وأجهزة اللاسلكي التي غافلت اللبنانيين دون استثناء يومي الثلاثاء والأربعاء (17،18) سبتمبر 2024 فأسفرت تلك الهجمات عن ارتقاء 32 شهيداً على الأقل وتشويه أو إصابة 3,250 آخرين، بمن فيهم مئتا حالة حرجة.
وقال الخبراء الأمميون المستقلون في بيان نشره موقع الأمم المتحدة عقب الجريمة: "إن هذه الهجمات تنتهك الحق الإنساني في الحياة، في غياب أي مؤشر على أن الضحايا شكلوا تهديداً مميتاً وشيكاً لأي شخص آخر في ذلك الوقت".
أي أنها تمثل "جريمة إبادة" وفق وصف أمين عام حزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير الذي أقرّ فيه بأن الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الاستخبارية اقترفتها ضد لبنان.. وكانت قاسية على صعيد إنساني بغية تفكيك وحدة الساحات.
لكن نصر الله بالمقابل وعد برد قاسٍ خارج سياق الدور الإسنادي المستمر للمقاومة في غزة؛ حتى إيقاف حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة القابض على الجمر منذ قريب العام.
من جهته، أشار الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله يوم أمس الأحد، في كلمة تأبينية له، أثناء تشييع جثامين شهداء الجمعة الدامي، من بينهم الشهيد إبراهيم عقيل قائد قوة الرضوان، قائلاً:
بأن الأهداف الإسرائيلية من التفجيرات واستهداف قادة الرضوان، تتلخص فيما يلي: أولاً:- شل المقاومة.
ثانياً:- تحريض حاضنتها الشعبية عليها.
ثالثاً:- إيقاف جبهة المساندة (لغزة) لإعادة سكان الشمال.
لكن المقاومين عطلوا هذه الأهداف، بالكامل-على حدّ قوله-.
أما (الكذّاب الأشر) نتنياهو، ففي تصريح له يوم أمس الأحد، قال بأنه لا يريد الذهاب إلى حرب في الشمال من خلال التصعيد مع حزب الله، مشدداً على ضرورة إبعاد الحزب. ويقصد هنا إلى ما وراء نهر الليطاني.
مؤكداً على أن الحزب تعرض لسلسة من الضربات التي لم يكن يتخيلها، وقد وعد بمزيد منها إذا لم يتوقف عن استهداف "إسرائيل" في دعوة مبطنة منه لتفكيك الجبهات المساندة للمقاومة والمرتبطة بإنهاء الحرب على غزة وفق تصريحات قادتها.
أي أن الرد اللبناني كما يبدو والذي جاء سريعاً ومباشراً وعلى دفعات استنزافية إنما هو جهد إسنادي مقاوم للفلسطينيين، ولو اشتد وطيسه منذ اقتراف المخابرات الإسرائيلية لجريمة تفجيرات الجنوب التي سيتم الرد عليها في الوقت المناسب.
وأقصد هنا قيام حزب الله عقب الجريمة مباشرة، بقصف أصبع الجليل بعدد كبير من المسيرات إنطلاقاً من الجنوب اللبناني دون أن تكتشفها الرادارات الإسرائيلية وتسببت بأضرار معنوية ومادية كبيرة.
ثم استئناف الحزب قصفه النوعي للشمال الإسرائيلي (فلسطين المحتلة) ولعل أخطرها استهداف القاعدة العسكرية التابعة لمطار رامات العسكري بعشرة صواريخ من طراز فادي (1) وفادي (2)، ومرة أخرى تم قصف الهدف نفسه فجر يوم أمس الأحد، بزخة صواريخ من ذات النوع أصابت أهدافها بعد اعتراض بعضها من قبل القبة الحديدية.
أيضاً قصف مواقع عسكرية في الجليل الغربي والجليل الأعلى (إصبع الجليل) وبلدة طبريا ونهاريا، وعكا بعشرات الصواريخ.
إلى جانب ذلك تم قصف مجمعات الصناعات العسكرية لشركة رافيل الإسرائيلية في منطقة زوفولون شمال مدينة حيفا بعدة صواريخ فاشتعلت النيران في بعض منشآته من جراء ذلك.
وهذه ضربة نوعية تحمل في طياتها رسائل ذات علاقة بالمنشآت الحساسة التي كانت تصورها طائرة الهدهد الاستكشافة التابعة للحزب، ومنها مرافق الميناء في حيفا ومصنع الأمونيا.
ووفق بيانات جيش الاحتلال فإن حزب الله أطلق أكثر من 100 صاروخ إلى كريات بياليك، وتسور شالوم، ومورشيت، فيما تم اعتراض بعضها، الأمر الذي كان له أثر نفسي سلبي في قلوب الإسرائيليين، متسبباً بدخول أكثر من 400 مستوطن إلى الملاجئ ناهيك عن تعطيل المدارس في مناطق الاستهداف وإغلاق الشواطي وتعطيل الحياة العامة.
وكان نتنياهو المتبجّح بجريمته النكراء قد نجح في إدخال الإسرائيليين في نشوة انتصار وهمي مدعياً بأنه ضرب حزب الله في العمق، في الوقت الذي استغل فيه جيش الاحتلال ارتدادات هذه الضربة الاستثنائية على مكانة حزب الله البيئية والأمنية والعسكرية، بقيام الطيران الإسرائيلي بقصف مرابض الصواريخ في الجنوب اللبناني.
لكن الحزب أصرّ على أنها كانت مجرد مواقع مهجورة وتم تصنيفها لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كمرابض للصواريخ بناء على معلومات استخبارية قديمة متراكمة منذ تموز 2006.
وبرهن الحزب على ذلك بتمكنه من قصف مدن الشمال الإسرائيلي بالصواريخ في سياقٍ مساند، وفي إيحاء منه بأن الرد القادم سيكون مزلزلاً.. وفي أن جريمة تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي لا تعدو عن كونها جريمة حرب، تخلو من البطولة المزعومة.
حيث أن زَرْعَ متفجرات بزنة 1 غرام في أجهزة البيجر اللاسلكية، وفق صفقة مشبوهة لا تعتبر إبداعاً سيبرانياً، وهي أشبه ما يكون بحقن صندوق يحتوي على التفاح بالسمّ في بلد محايد، لِيُصَدَّرُ إلى لبنانَ في ظلِّ سوق عالميّة آمنة، والنتيجة ستكون سمّاً زعافاً سينتشر بين الناس دون تمييز.
وهي صورة تقابل ما جرى بالفعل من تلغيم وتصدير وتفجير لأجهزة البيجر اللاسلكية ما أدّى إلى تساقط الضحايا دون تمييز، إلى جانب ضرب سوق التكنلوجيا العالمية في العمق وفق خبراء.
وهذا ليس تبخيساً بحجم الضربة بل تشكيكاً بقدرات من نفذها في الظلام.
ورغم ذلك تمكن الحزب من تفعيل الخطط البديلة حتى يستعيد عافيته.
فأجهزة الأمن الإسرائيلية قد سقطت في اختبار السابع من أكتوبر بما يعرف بطوفان الأقصى الذي ستحلّ ذكراه بعد أسابيع.. ورغم ذلك يتبجح نتنياهو في أن "إسرائيل" قادرة على فتح جبهة الشمال خلافاً للواقع.
فكيف يوهم نتنياهو الإسرائيليين بذلك وجيش الاحتلال يُسْتَنْزَفُ في مستنقع غزة دون تحقيق أهدافه بدءاً من اجتثاث حماس أو تهجير الفلسطينيين أو استعادة الأسرى الإسرائيليين، وبالتالي تكبد الاحتلال من جرّاء ذلك، خسائر طائلة في الأرواح والمعدات.
لا بل من سيصدق بأن الاقتصاد الإسرائيلي في عافية خلافاً لمؤشرات الخبراء؟
حيث شهد الاقتصاد الإسرائيلي تراجعاً غير مسبوق، بسبب الإجراءات الاقتصادية المختلفة وسياسات حكومة بنيامين نتنياهو خلال حرب غزة الاستنزافية المتدحرجة.
فوفق ما ذكرت صحيفة غلوبس الإسرائيلية الاقتصادية، فقد "ارتفع عجز موازنة إسرائيل إلى مستوى قياسي جديد بلغت نسبته 8.1% من إجمالي الناتج المحلي، وذلك بسبب زيادة الإنفاق الحكومي والعسكري مع استمرار حربها على قطاع غزة ودخولها شهرها الـ11".
كل ذلك أدّى إلى خفض وكالة فيتش التصنيف الائتماني ل”إسرائيل” الشهر الماضي؛ لدرجة واحدة، من (A+) إلى (A)، وقد تتراجع إلى المستوى الائتماني (+B)في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة لشهره العاشر (14 أوغسطس الماضي). فما بالكم وقد شارفت الحرب على انتهاء عامها الأول.
ناهيك عن إغلاق عدد كبير من الشركات الصغيرة في "إسرائيل" وفقًا لتقرير شركة معلومات الأعمال "كوفام بي دي آي"، في أنه من المتوقع أن تشهد دولة الاحتلال إغلاق ما يصل إلى 60 ألف شركة في عام 2024.
ويأتي هذا التوقع القاتم، في الوقت الذي أغلقت فيه 46 ألف شركة أبوابها بعد تسعة أشهر من الحرب على غزة، في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر.
إذن كيف يدعي نتنياهو في أن كيان الاحتلال مستعد لفتح جبهة جديدة في الشمال مع حزب الله.. وفي أن الاقتصاد الإسرائيلي ما زال قوياً!! وأن القوات الاحتياطية مجهزة وقادرة عل استئناف الحرب في الشمال مع أنها تُسْتَنْزَفُ يومياً في غزة!! لولا أن الكذّاب الأشر يعتمد في وعوده المزيفة على قوة سلاح الجو الإسرائيلي المتفوق إلى جانب توريط الجيش الأمريكي في أية حرب إقليمية يسعى إليها.
وفي ظن نتنباهو أنه بتضافر وحدة الساحات سيعيد تشكيل معطيات الحرب ونتائجها على أساس أنها حرب أمريكية إسرائيلية ضد إيران لفرضها على الأمريكيين.
فإذا خابت مساعيه فسوف يحاول تفكيك الجبهات والتعامل معها بشكل فردي لإجهاضها سياسياً.. من خلال لعبة عض الأصابع للضغط على قيادة حزب الله وإبعاد قواته إلى ما وراء نهر الليطاني بذريعة تأمين عودة آمنه للسكان إلى الشمال الإسرائيلي "فلسطين المحتلة" متجاهلاً أن ما يسعى إليه مجرد وهم مكشوف للعيان.