يمتلك المراوغ السفاح نتنياهو مفاتيح كل الحلول لإيقاف حرب الإبادة على قطاع غزة رغم أنه الخاسر في اختبار الإرادات مع المقاومة ضمن وحدة الساحات.
هذه المحاضرة هي محاولة علمية جادة للدخول إلى عقل نتنياهو من أجل فهم كل تداعيات ما بعد طوفان الأقصى وفك الكثير من طلاسم السردية الصهيونية المضللة وهي بعنوان:
"مخرجات السردية الصهيونية المضللة على عقل نتنياهو
ومحك السابع من أكتوبر"
من هذا المنطلق فلا بد من الخوض في شخصية نتنياهو من خلال سياساته المضللة الهوجاء على كافة الصعد، وكيف أن مصير المنطقة بات بين يديه في حرب إرادات لا يكسبها إلا صاحب الحق المبين.
إذن فما هي مصادر فكر نتنياهو الذي تضمنه كتابه "مكان تحت الشمس" وكيف تم إسقاطها على واقع الأرض بعد طوفان الأقصى ما أدى إلى اقتراف مجازر إبادة أدانتها المنظمات الدولية.
بمعنى كيف يخطط عقل نتنياهو المحكوم إلى المشروع الصهيوني الخاضع لصراع بين مفهوم القومية الصهيونية ويهودية الدولة اليمينية المتطرفة.. مع أن ما يجمعهما هو مشروع "إسرائيل" الكبرى الإحلالي التوسعي القائم على إبادة الضحية كما يحصل في فلسطين وجنوب لبنان.
وحينما نتحدث عن عقل نتنياهو الكلي فهذا يأخذنا إلى التعريف بمكوّنيه، وهما:
أولاً:- العقل الظاهري الذي يحتوي على الذاكرة التفاعلية الراهنة السطحية التي توفر المعطيات الواقعية الميدانية للتفكير المنطقي،ومن ثم الوصول إلى النتائج الواقعية التي تبنى عليها الحقائق باستخدام الوسائل التكتيكية.. أو يتم تزويرها لبناء الحقائق المضللة وبناء الاستراتيجيات الوهمية اليائسة كما يحدث في السردية الصهيونية منذ نشوئها والقائمة على القتل والنهب والتزوير.
ثانياً:- العقل الباطني الذي يحتوي على الذاكرة العميقة، والعاطفة (الحزن، الحب، الكراهية ورفض الآخر)، أيضاً يحتوي على مكامن الشك والإيمان والأخلاق النسبية، والغريزة بكل أنواعها وبخاصة الجشع الذي يفتح شهية الاحتلال على سرقة المزيد والخوف من المجهول، وهما حالتان استحوذتا على عقل نتنياهو وحولتاه إلى شخص متغطرس لا يرى إلا مصالحه بتغليب الخاص على العام.
فلازمه من جراء ذلك شعور اليهودي المتفوق الذي لا يخطئ، إلى جانب الشعور بأنه الضحية كما هو حال الكيان الذي يحكمه، وهو كيان لا يريد الخروج من الغيتو المنغلق على نفسه إختيارياً لأسباب دينية؛ بل يريد حبس العالم بين أسواره من باب أنهم شعب الله المختار وأن العالم مجردد جويم.
كذلك تنامي شعور نتنياهو بالخوف من السجن الذي ينتظره، من جراء ملاحقته بقضايا فساد.
وخوفه من الاعتراف بالفشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي وضعها منذ عقدين، بسبب طوفان الأقصى، والقائمة على: مبدأ الاتفاقيات الإبراهيمية التي دعمها ترامب، وإلغاء اتفاقية السلام "أوسلوا" التي كبدت "إسرائيل" وفق رؤيته، خسائر في الأرض غير مبررة.
وأقصد هنا الخوف الوجودي أو رهاب المجهول. كل ذلك خلق في عقل نتنياهو الباطني فوضى واضطرابات ترجمها سلوكه على الأرض، وسياساته القائمة على ضخ الأكاذيب وتكرارها وتصديقها من قبل عقله الذي أغرقه العقل الظاهر بالأوهام والاستراتيجيات الوهمية، حيث اختلطت فيها الأفكار الدينية التوراتية، والقومية الصهيونية، ومشاعر عدم اليقين التي تسيطر عادة على عقول القتلة المجرمين الذين يسعون لإثبات الذات من خلال ممارسة العنف.
فصار لزاماً على نتنياهو فرض أفكاره الانقلابية على الآخرين بكل أطيافهم ولو خالفت المثل الإنسانية والقانون بكل أبعاده على صعيد مدني إسرائيلي ودولي، أو وفق ما تراه المعارضة الإسرائيلية بأنها "أفكار كارثية" يدعمها يمين متطرف هو الأخطر على وجود "إسرائيل" ووحدتها الداخلية التي تشهد انقسامات بات نتنياهو أحد داعميها كونها تمثل أهم ضمانات وجوده السياسي من خلال دعم اليمين المتطرف الذي بالغ في استحلابه.
أي أن نتنياهو شخص مراوغ، مزور، كذّاب أشر، يطلق الكثير من الوعود الجوفاء، حتى أن تكتيكاته ارتجالية طارئة غير مترابطة، ولا تؤدي إلى قيام استراتيجيات واقعية مدروسة.
وهذا يفسر تداعيات الحرب على غزة ونتنائجها العمياء، حيث أعلن نتنياهو حرب الإبادة منذ أكثر من عام رداً على طوفان الأقصى ففشل في تحقيق الأهداف فراح يغيرها كي يظفر بنصر وهمي ممكن فلم ينل إلا الخيبة.
وأهم هذه الأهداف اليائسة: اجتثاث حماس وتهجير الفلسطينيين وتحرير الأسرى.
وحتى يغطي نتنياهو على فشله في غزة وجه الجيش الإسرائيلي إلى تكثيف جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين مستهدفاً البيوت والمدارس والمستشفيات والخيام، بغية صناعة نصر وهمي، قد يساعده على الهروب من الملاحقة القانونية إلى الأمام من خلال: إطالة الحرب وتفكيك وحدة الساحات، وتوسيع الجبهات لتضم جبهة حزب الله جنوب لبنان لدفع قوات الرضوان شمال الليطاني، وبذر أسباب اشعال حرب إقليمية لجلب الخصمين التاريخيين إليها (إيران وأمريكا)، تحت شعار بناء شرق أوسط جديد.
فيما ظل يكذب في كل التفاصيل حتى في تبريراته حول جرائم الإبادة مدعياً أنها كانت تستهدف قادة حماس ليكتشف العالم زيف هذا الادعاء من خلال استشهاد السنوار وهو في حالة اشتباك في كمين كان الشهيد يشرف عليه، فتحول بذلك إلى أسطورة كما حدث لغزة التي تحولت بسبب صمودها الأسطوري إلى أيقونة غيرت العالم.
لذلك أطلقت المعارضة وكتاب اليسار الإسرائيلي على نتنياهو لقب "الرئيس الكارثة" منذ بداية رئاسته للحكومة الإسرائيلية عام 1996 إلى يومنا هذا، ودلالة هذه الصفة تتجلى بقدرة هذا الرجل الفائقة على الاحتيال والتفلّت من الأزمات في وقت واحد.
لكن نتياهو ردّ عليهم التهمة على اعتبار أنهم "تناسوا معنى أن يكون المرء يهوديا”. وقد أوضح تعريفه هذا في كتابه "مكان تحت الشمس” الذي يلخص الفكر المشوه لمجرم حرب كانت قد أدانته محكمة الجنايات الدولية بتهم الإبادة ضد الفلسطينيين، فقد رتب فيه الأولويات التي يمكن من خلالها الحفاظ على المشروع الصهيوني المتمثل ب"إسرائيل" التي وضعها طوفان الأقصى على المحك الوجودي.
صدر الكتاب بلغته الأم، العبرية، عام 1993، وصدرت نسخته العربية المترجمة عن دار الجليل.. ويقع ضمن نظرية الواقعية السياسية المتطرفة "الهجومية"، التي تعظم القوى العظمى الغاشمة، ضمن مبدأين أساسيين: إسرائيل وتوازن القوى، وإلقاء التبعات على الآخرين والظهور بمظهر الضحية.
لكن نتنياهو تجاوز ما هو نظري في الكتاب إلى فكرة التفوق وممارسة العدوان الأهوج ضد الآخر لتحجيمه ورجمه بتهمة "الجاني" إزاء ادعائه بأنه الضحية من خلال التضليل الإعلامي وضخ الأكاذيب حتى يصدقها المتلقي دون اعتراض.
نتنياهو نجح في تسويق أفكاره كبرنامج يعيد للفكر الصهيوني نشاطه، وينقذ بذلك كيان الاحتلال الإسرائيلي من تبعات اتفاقيات السلام التي يراها مجحفة بحق المشروع الصهيوني التمددي.
وقد اعتبر نتنياهو في كتابه "الكيان الإسرائيلي" بأنه المركز؛ ليضع العرب في هامش الحدث انطلاقاً من كون هذا الكيان الطارئ هو الضامن لأمن ونهضة الشرق الأوسط.
لكن طوفان الأقصى كان له بالمرصاد من حيث لم يتوقع السوبر نتنياهو ، فاخترق الطوفان أمنه القومي، وقلب عليه الطاولة ضارباً مشروعه الخبيث في الصميم وقد أثبت بأنه كيان مهزوز غير متماسك وجيشه مضعضع لولا ما يتلقاه من دعم أمريكي مفتوح.
الكتاب يتمحور حول العديد من الأفكار التي يفسر تناولها تداعيات الحرب على غزة وامتداداتها في جبهة لبنان شمال فلسطين المحتلة.. ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً:- الفكر الصهيوني حافظ على الهوية اليهودية وأمن "إسرائيل" المرتبط بالأرض، وهما من أهم مقومات الحياة ما يستوجب التمسك بهما.
وقام باستبدال مبدأ ” الأرض مقابل السلام "، بمبدأ ” السلام مقابل السلام " وهو ما تم في سياق الاتفاقيات الإبراهيمية.
ولاكتمال الخطة التي رسم معالمها نتنياهو في كتابه للحفاظ على أمن "إسرائيل"، أعلن عن نيته ضم غور الأردن والضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، إضافة إلى ضمان استمرار التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي في المنطقة.
ثانياً:- وفي سياق الحديث عن "الحق الموضوعي” لليهود في فلسطين، يذكر المؤلف أن هذه البقعة كان يقطنها قبل قدوم المجموعات اليهودية مجموعة من السكان ” الكسالى وخاصة في المجال الزراعي ” الذين "لا فائدة منهم” متناسياً أن فلسطين كانت أكثر ازدهاراً من البلدان التي قدموا منها بدلالة الذاكرة المتخمة بالحقائق الموثقة بالصور المفرج عنها من الوثائق الإنجليزية، إلى جانب الموروث المكاني في الذاكرة الفلسطينية التي لا تبور. ومع أن الحياة الزراعية حتى العقد الثاني من القرن العشرين، كانت مرتبطة بنمط الاقتصاد في السلطنة العثمانية، القائم أساسا على الجباية دون إدخال إجراءات إصلاحية لأي من القطاعات المختلفة.
مع العلم أن المشروع الإسرائيلي منذ إنشائه عام 1948 بدعم من قبل حكومة الانتداب البريطاني قام بدور وظيفي لصالح الغرب لذلك ما زال يحظى بدعمهم المطلق.
ثالثاً:- يعيد نتنياهو بلورة نظريته العنصرية إزاء العرب بالمجمل، باعتبارهم أمة لا نفع منها، ويجب التعامل معهم بلغة القوة لتحقيق السلام كما حصل في إبرام الاتفاقيات الإبراهيمية بضغط من الرئيس الأمريكي السابق ترامب، ويرى نتنياهو في كتابه أن القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الزعماء العرب مجرد مطية لتحقيق المصالح.
وهذا يفسر استنكار نتنياهو لحقوق الشعب الفلسطيني كونها تتعارض مع مصلحة ” الدولة اليهودية” واشتراطاتها، وفي مقدمتها ضمان أمنها وحمايتها من أي اعتداء محتمل لذلك يسعى من خلال الحرب على لبنان ضم جنوب الليطاني لإبعاد خطر حزب الله.
رابعاً:- يركز نتنياهو في كتابه على الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود "إسرائيل" ممثلا بالجمهورية الإيرانية "الريديكالية"، ومشروعها النووي وأذرعها الممتدة.. وقد ثبتت نواياه الشيطانية المتربصة بإيران من خلال الحرب على المقاومة في غزة في سياق وحدة الساحات.
وخاتمة المطاف أنه بعد صدور الكتاب بفترة قصيرة تمكن نتنياهو من الوصول إلى رئاسة الحكومة في كيانه الطارئ، وتمكن خلال فترات رئاسته، من تحقيق الكثير مما تناوله في كتابه الذي أشبهه بكتاب "كفاحي" لهتلر.. إلى أن جاء طوفان الأقصى.. لينسف مشروع نتنياهو على أرض الواقع.. فتتحول كل الاستراتيجات التي كانت قيد التنفيذ إلى أوهام مستحيلة تختلط في عقل السوبر نتنياهو الكلي.. حتى باتت كلمة "إسرائيلي" بسبب الجرائم التي اقترفها الاحتلال، مرادفة لكلمة "نازي" على صعيد عالمي.
22 أكتوبر 2024
***
محاضرة ألقيت في بيت الثقافة والفنون بدعوة من مدير مركز تعلم واعلم للأبحاث والدراسات... أ.د أحمد ماضي