عند النظر في مستوى وحجم الهجوم الإسرائيلي على إيران، يجب أن ندرك أنه يأتي كخطوة تكتيكية وليس استراتيجية. إذ أن مسار التمدد الإسرائيلي بات يواجه تهديدات وجودية تبرز من خلال التغيرات الإقليمية والدولية. تلك التغيرات تظهر وسط الأوضاع المتقلبة التي تتكشف تحت أمواج الرمال المتحركة، حيث أصبحت الدول الحامية لإسرائيل عاجزة عن تقديم الدعم المباشر بجيوشها. فالحرب الأوكرانية قد تشير إلى توسع أكبر في الصراعات، كما أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على تغطية احتياجات حروب أوسع في الشرق الأوسط، بجانب التكاليف المالية الباهظة لمثل هذه الحروب.
إضافةً إلى ذلك، شهدت إسرائيل انقلابًا في مواقف شعوب الدول الغربية تجاهها، حيث باتت شرعية حروبها موضع شك وتجاوزاتها الأخلاقية والقيمية صارخة. هذا وغيره يُظهر بوضوح تراجع نتنياهو وفريقه الوزاري عن حلم استغلال الفرصة التاريخية لضرب القدرات النووية الإيرانية واحتواء مشروع إيران الساعي للهيمنة الإقليمية.
وبالرغم من هذا، نعلم أن المشروعين الإيراني والصهيوغربي قد تقاطعا في مراحل عديدة، خاصةً خلال الحرب العراقية-الإيرانية وتزويد إسرائيل لإيران بالسلاح، وكذلك تعاون إيران مع الاحتلال الأمريكي للعراق. هذا التعاون شمل أيضًا سوريا واليمن للحد من التمدد السعودي والإماراتي وتقييد أدوار دول الجوار، بما فيها تركيا، في توافق غير مباشر بين المشروعين. ولكن يبقى الصراع الخفي والخوف المتبادل من هيمنة أحد الطرفين على الآخر قائمًا.
من جهة أخرى، يظهر التقييم الإسرائيلي لأحداث غزة خلال العام المنصرم فشلاً واضحًا في تحقيق أهدافه، مع بث صور مروعة يوميًا عن الوضع هناك، ما يشكل ضغطًا دوليًا متزايدًا. كما أن الفشل في لبنان أسهم في تعزيز المخاوف الإسرائيلية من عجزها عن خوض حروب طويلة وشاملة، إضافة إلى مخاوفها من تغير مواقف الغرب، خاصة أوروبا، وابتعادها عن التزاماتها التقليدية. وقد بدأت ملامح هذا التغير بالظهور في دول مثل فرنسا وهي تكتشف ملعوبا امريكيا واسغلالا انانيا في قضايا لا تشكل لهم اولويات خاصة وانهم الاقرب لبؤر الصراع المحتدم.
بناءً على ما سبق، يبدو أن طموح إسرائيل لبناء "إمبراطورية تلمودية" قد بدأ بالانحدار، وأصبح تحقيق هذا الطموح على الأقل في المستقبل المنظور مستحيلًا.
هذا الوقت هو الأنسب للدول العربية للعودة إلى نهج متزن، بعيدًا عن المواقف الاستسلامية (لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم)، والعمل على تبني موقف حازم يتماشى مع تطلعات شعوبها، قبل فوات الأوان. فالمشروع الصهيوغربي لا يفرق بين هذا وذاك، ولذلك وجب أخذ الحيطة والعمل بحزم على حماية المصالح الوطنية.